كيف ستتعامل واشنطن مع كوريا الشمالية؟
من المعروف أن بيونغ يانغ لن تلتزم الصمت أمام تحركات إدارة بايدن في مطلق الأحوال، ولن يحصل أي تقدّم إذا تمحور إطار العمل حول نزع الأسلحة النووية بالكامل، فكوريا الشمالية دولة نووية وتتمتع بالقدرة اللازمة للمطالبة بمعاملتها على هذا الأساس.
خلال اجتماع في البيت الأبيض قبل أسابيع قليلة من تنصيب دونالد ترامب، حذر باراك أوباما الرئيس المُنتخب من تحوّل التهديد النووي الكوري الشمالي إلى أخطر التحديات التي سيرثها في مجال الأمن القومي، ثم رحّب كيم جونغ أون بترامب عبر إطلاق نحو 24 اختباراً بالصواريخ البالستية في عام 2017 وحده، فاستعرض بذلك قدرات بلده المتزايدة، وفي المقابل عمد ترامب بكل حماسة إلى التخلي عن مقاربات أسلافه الحذرة والتقليدية لكن العقيمة بشكل عام، فجرّبت إدارته مقاربة «الضغوط القصوى» وجمعت بين عقوبات الأمم المتحدة الصارمة وجهود شاملة للتأكيد على استعدادها لخوض الحرب لإنهاء التهديد النووي الذي تطرحه كوريا الشمالية. جرّبت هذه الإدارة أيضاً الأدوات الدبلوماسية بناءً على العلاقات الشخصية بين المسؤولين، فكسرت المحظورات ونظّمت ثلاث قمم تاريخية بين ترامب وكيم، ثم حاولت تجاهل كوريا الشمالية طوال سنتين.حقق ترامب إنجازات تاريخية كثيرة، لكن بقي وضع كوريا الشمالية كما كان عليه منذ أربع سنوات، إذ لا تزال برامجها النووية والصاروخية مستمرة وتتعرض بيونغ يانغ لضغوط قوية كي تستفيد من الوضع لتحقيق مكاسب اقتصادية واستراتيجية. باختصار، زادت قوة كوريا الشمالية ويأسها في آن، وهو خليط خطير بمعنى الكلمة.تفضّل إدارة بايدن على الأرجح أن تحافظ على وضع المراوحة وتركّز على أولوياتها الأكثر إلحاحاً، لكن من المستبعد أن تتحلى كوريا الشمالية بالصبر مثلها، فقد كان عام 2020 سيئاً على بيونغ يانغ، حيث تراجعت عملياتها التجارية مع الصين بنسبة 75% بعدما أجبرها تفشي فيروس «كوفيد19» على إغلاق حدودها، كذلك، تفيد التقارير بأن خسارة واردات المواد الخام أدت إلى توقف نشاطات المصانع على نحو مقلق وارتفاع أسعار المواد الغذائية بدرجة قياسية وتقلّب قيمة العملة الكورية الشمالية. وفي أكتوبر الماضي، فاجأ كيم المراقبين حين قدّم اعتذاراً مؤثراً لأنه فشل في تحقيق وعوده الاقتصادية.
من المتوقع أن ترحّب كوريا الشمالية بوصول بايدن إلى البيت الأبيض كما فعلت مع ترامب وأوباما الذي شهد في أول أربعة أشهر من عهده على إطلاق اختبار لأخطر صواريخ بعيدة المدى حتى الآن، وانسحاب بيونغ يانغ من المحادثات السداسية، وثاني اختبار نووي كوري شمالي، وعند تنصيب بايدن رسمياً في 20 يناير الجاري، من المنتظر أن يترأس كيم مؤتمراً حزبياً ضخماً ونادراً، إذ يجب ألا يتفاجأ أحد إذا أسفر ذلك الاجتماع عن رسالة واضحة بما يكفي حول خطط بيونغ يانغ وتوقعاتها من الولايات المتحدة. وإذا شعرت بيونغ يانغ بأن إدارة بايدن لا تعطيها انتباهاً كافياً ولا تبدي استعدادها لتخفيف العقوبات المفروضة عليها، قد تتلاحق الاستفزازات الرامية إلى إعادة واشنطن إلى طاولة المفاوضات، فقد سبق أن كشفت كوريا الشمالية عن صاروخ ضخم جديد خلال استعراض عسكري في الخريف الماضي. وفي كل مرة تستعرض فيها بيونغ يانغ صاروخاً جديداً، تنطلق الاختبارات الصاروخية بعد وقتٍ قصير من الإعلان عنه، وعند حصول ذلك، ستعود الولايات المتحدة وكوريا الشمالية إلى نقطة الصفر مجدداً.في ظل هذا الوضع هل تستطيع إدارة بايدن، أو أي إدارة أميركية أخرى، أن تحقق أي تقدم بارز لكبح تهديدات كوريا الشمالية؟ تتعدد الأسباب التي تدعو إلى التشاؤم. لنفكر بالعوامل التي تعوق عمل المفاوضين الأميركيين: تحمل كوريا الشمالية تاريخاً طويلاً في مخالفة الاتفاقيات التي تم التفاوض عليها بصعوبة حول برنامجها النووي، ولم يسبق أن أعطت الأولوية يوماً لمصالحها الاقتصادية على حساب صمود نظامها أو الدفاع الوطني. يبدو أن البلد يتّكل اقتصادياً على قوة خارجية أخرى تريد منه أن يتخلى عن أسلحته النووية (الصين)، لكنه يعجز عن تحقيق إنجازات كبرى في هذا المجال. يُعتبر أي «انفتاح» سريع على العالم الخارجي تهديداً غير مقبول على سطوة النظام، مما يجعل الحوافز المرتبطة بالتكامل عقيمة، ويعطي البرنامج النووي شرعية للنظام أمام عامة الناس، علماً أن النظام أقنع الرأي العام بأنه يتعرض لحصار دائم من الأعداء الخارجيين، إذ يحظى هذا النظام بشعبية واسعة وسط المتشددين في النخبة الحاكمة والضباط العسكريين وجهاز الأمن القومي، ويعيش معظم هؤلاء حياة فاخرة ويحتاج كيم إلى دعمهم الثابت لحُكم البلد، وفوق كل شيء، تجاوز البرنامج النووي مرحلة الطموحات وتلاشى على أرض الواقع احتمال التخلص منه عبر التحركات العسكرية. تشمل كوريا الشمالية مئات القنابل النووية وترسانة غير مسبوقة من آليات التشغيل ولا يستطيع أحد تجريدها من هذه القدرات بكلفة مقبولة.يجب ألا يشعر أحد بالإحراج إذاً عند الفشل في نزع أسلحة كوريا الشمالية النووية، لكن ذلك لا يعني استحالة التوصل إلى اتفاق مُخفف لتقليص تهديداتها النووية، أي الحد من حجم ترسانتها ونطاقها، ولا يعني ذلك أيضاً أن تعجز بيونغ يانغ عن خوض مفاوضات جدية، فقد أثبتت كوريا الشمالية استعدادها للتحاور بدءاً من عام 2018، حين أطلقت عملية مصالحة بطيئة ومتقطعة لكن مهمة مع كوريا الجنوبية. مهّدت هذه الخطوة في المقابل لنشوء علاقة ودية بين كيم وترامب، وربما أخطأت كوريا الشمالية في حساباتها حول المنافع التي تستطيع اكتسابها من إدارة ترامب خلال الاجتماع في هانوي، لكن أثبتت الإقالات من فريق المفاوضين الكوري الشمالي بعد تلك القمة أن بيونغ يانغ لا تحمل نوايا سيئة بالكامل.باتت برامجها الصاروخية والنووية كبيرة بما يكفي اليوم كي تصبح جوانبها قابلة للتفاوض من دون أن تشعر بيونغ يانغ بالضعف أو الإحراج، ولن تحتاج كوريا الشمالية إلى الصواريخ البالستية العابرة للقارات إذا اقتنعت باحتمال نشوء علاقة أمنية جديدة تضمن تراجع مخاطر عمليات الغزو من الولايات المتحدة أو حلفائها بدرجة يمكن التحكم بها في جميع الظروف. على صعيد آخر، قد لا تعطي كوريا الشمالية الأولوية لمصالحها الاقتصادية على حساب دفاعها الوطني وأمن نظامها، لكن تحافظ تلك المصالح الاقتصادية على أهمية كافية كي تصبح بنوداً مؤثرة في أي صفقة محتملة، لكنّ الشيطان يكمن في التفاصيل طبعاً وستتطلب أي صفقة مماثلة مساراً بطيئاً وشاقاً ومتواصلاً قبل التوصل إلى اتفاق مناسب.لكنّ عناصر أي صفقة محتملة تستحق العناء وتبرّر متابعة التحاور، ومن المعروف أصلاً أن بيونغ يانغ لن تلتزم الصمت أمام تحركات إدارة بايدن في مطلق الأحوال، ولن يحصل أي تقدّم إذا تمحور إطار العمل حول نزع الأسلحة النووية بالكامل، فكوريا الشمالية دولة نووية وهي تتمتع بالقدرة اللازمة للمطالبة بمعاملتها على هذا الأساس، وقد تصبح المفاوضات الركيزة الجديدة لأي تفاهم محتمل بين الطرفين إذا سُجّل تقدّم بارز في هذا المجال.
فيليب أوركارد - جيوبوليتيكال فيتشرز
ترامب حقق إنجازات تاريخية كثيرة لكن وضع كوريا الشمالية بقي كما كان عليه منذ أربع سنوات