ماذا فعلت «الجائحة» بالنفط والاقتصاد الخليجي؟
جرس الإنذار الذي أطلقته غرفة التجارة والصناعة لم يكن وليد اللحظة بل سبقته وتوالت بعده مبادرات متتالية مهدت الطريق إلى هذه الصرخة، والتي لم تكن لتخرج بهذه الصورة لولا قناعتها بأن التأزم السياسي والإخفاق التنموي وفقدان الوعي بالمخاطر باتت تهدد الاقتصاد في موازاة للهروب من الإصلاح، والذي سيؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى إضعاف قدرة الدولة على المواجهة. وبالرغم من دقة التشخيص للأزمة، تبرز الحاجة أكثر إلى أن الفترة التي ستعقب جائحة كورونا، تشكل فرصة تاريخية للإصلاحات الهيكلية باقتصاد الدولة، فما تعرضت إليه الكويت ودول الخليج العربي بوصفها تعتمد على مصدر دخل رئيس وأولي يتمثل بإنتاج النفط، تعيش مجتمعاته في ظل ما يعرف بـ"دولة الرفاه"، يجعلها تدعم التوجه إلى تنويع مصادر الدخل مما يستتبع إجراء إصلاحات هيكلية ووضع أسس جديدة لمرحلة ما بعد كورونا، وهنا تبرز المعضلة الدائمة بطرح السؤالين التاليين: هل هناك استعداد فعلي للتغيير؟ وهل الإرادة السياسة عازمة على إحداث تغيير حقيقي ونوعي يستلزم توجها صادقا وجديا بالإصلاح؟ الكويت ودول الخليج العربي عانت طوال أزمة كورونا وما زالت انتكاستين كبيرتين بحجمهما تسببتا بكوارث اقتصادية مالية وصحية الأولى: تراجع أسعار النفط وفقدان قيمته بنسبة 20% بشكل دراماتيكي انعكس على ميزانيات الدول وفاتورة الإنفاق ووصل إلى صناديق الثروة السيادية، وقلصت الحيز المالي المتاح للدولة. والثانية: ما نتج عن الأزمة من إغلاقات للأسواق وتجميد حركة المجتمع والدولة وتعطيل حركة التجارة بكل أشكالها، فقد سددت هذه الجائحة ضربة مؤلمة للصحة البشرية وفرضت كلفة اقتصادية باهظة.
ما هو مطروح يتعدى مرحلة ما بعد عام 2020 وهو عام "النكبة الكورونية"، ويتجاوز حدود ما سيتم التعاطي به سواء كان ركوداً اقتصادياً، أو تراجعاً أو انتعاشاً مؤقتاً. موضوعنا يتصل بالخلاصات التي انتهى إليها الدارسون للخروج من دوامة "الاقتصاد الريعي" والقائم على مصدر دخل أوحد وهو إنتاج النفط وبيعه وتسويقه، فأهل الخبرة والمال لديهم قناعة مبنية على وقائع تفيد بأن هناك مرحلة قادمة يجب الاستعداد لها وباتخاذ خطوت تدريجية بالتغيير نحو اقتصاد أكثر استدامة، لذلك فالدعوة التي ستساهم بالانتقال إلى مرحلة جديدة توازي بين الأصول والمصروفات وتوجب النظر بتغيير هيكلي للاقتصاد، وبصندوق الأجيال القادمة ودوره المرتقب بتوليد دخل إضافي للدولة وهذا من شأنه تعزيز دور القطاع الخاص لمنحه حصة أكبر في حجم الاقتصاد الكلي. في الأزمات الكبرى التي تصيب الحضارات والدول عادة ما تحمل في طياتها بذور انطلاقة جديدة في حال تم استيعاب الدرس والتعلم من النكبات؟ أمامنا حالات نستذكرها، بل نستدعيها لزوم الحاجة للدلالة على ما نود أن نصل إليه. في الحرب العالمية الثانية، دمرت اقتصادات الكثير من الدول وانهزمت عسكرياً بل سقطت هياكلها على الأرض، هذه الدول اعتمدت أنظمة حوكمة جديدة قوامها الديمقراطية كنظام سياسي والتوجه نحو التصنيع المدني وعلى قاعدة التوسع بالتعليم المتقدم، وأقرب مثال على هذا النموذج ألمانيا واليابان واللتان أعادتا بناء بلديهما من جديد والتحول إلى اقتصادات عملاقة ومجتمع متماسك ومنتج حققتا فيه نتائج مرضية وأفضل بكثير مما كانت عليه من قبل. تسمعون بدولة "ناورو" الواقعة على المحيط الهندي التي كانت واحدة من أغنى دول العالم بفضل مداخيل معدن الفوسفات، لكن الاحتياطات نفدت وغرقت البلاد في حالة ركود بسبب النضوب التدريجي لهذا المعدن، وهو مصدر دخلها الوحيد! بعدما تبين أن استثماراتها في الخارج لم تكن مجدية وأنها فقدت قيمتها بسبب وباء كورونا! وهكذا خسرت كل أرصدتها التي بنت عليها رفاهيتها بسبب اعتمادها على مصدر وحيد آيل للنضوب دون أن تستشعر المخاطر المترتبة عليه. مثال آخر يعكس عملية الاستنهاض وإعادة البناء لدولة طحنتها الحرب الأهلية طيلة 25 عاماً تحولت بعدها إلى نموذج جيد في كيفية الإصلاح الاقتصادي، ونعني بها "رواندا" الإفريقية، اتخذت إدارة الحكم نهجاً جديداً وبشكل جدي من خلال رؤية واضحة تمثلت بما يلي: أولاً: مشروع سياسي يحقق المصالحة الوطنية. ثانياً: إصلاح المؤسسات. ثالثاً: دستور جديد. رابعاً: رفع مستوى الدخل. خامساً: تقليل الاعتماد على المعونات الخارجية. سادساً: تطور التعليم. سابعاً: خلق طبقة وسطى. تلك أمثلة واقعية نستعرضها من باب رفع الهمة الوطنية وتحفيزها على إحداث النقلة النوعية بتغيير النهج من أجل إعادة هيكلة الاقتصاد والوصول إلى اقتصاد أكثر استدامة. خلال عشرين عاماً مضت تضاعفت المصروفات بالميزانية العامة للدولة، أكثر من سبع مرات، وقفزت من 13.8 مليار دينار عام 2000 لتصل إلى 22.5 مليار دينار عام 2020، وخلال عشرين عاماً، لم يستوعب القطاع الخاص سوى 14% من العمالة الوطنية ليوفر حافزاً لاستيعابها وتخفيف الضغط على القطاع الحكومي، كان من الصعب تحقيق التعادل في الميزانية بين الإيرادات التي تدهورت والمصروفات التي تضاعفت، وطيلة العشرين عاماً مضت بلغ إجمالي المدفوعات لدعم العمالة الوطنية نحو 5.5 مليارات دينار كويتي لقطاع العمل، ينخرط به 440 ألف عامل كويتي من أصل 2.6 مليون عامل وافد. لقد دفعت الدولة 12 مليار دينار في عام 2020 رواتب موظفيها، وقدمت 3.5 مليارات دينار عبارة عن دعوم مختلفة (صحة– زواج– سكن– طاقة) في ميزانية 2020- 2021، في الوقت الذي فقد فيه برميل النفط ما بين 20 إلى 30% من قيمته. في خضم هذه الأزمة والسجالات التي شهدتها الساحة الكويتية والمحيط الجغرافي الخليجي الذي تتشارك معه بالعديد من أوجه التماثل بالأنظمة الاقتصادية والرعايات والاجتماعية والصحية والتعليمية، نغلق باب الاستعراض ونطرح التساؤلين: ما الخطوة القادمة؟ وما أوجه التغيير والتعلم من دروس الجائحة؟