لم يكن عهد ترامب إيجابياً على مستوى "القوة الناعمة" الأميركية، أي القدرة على التأثير بالدول الأخرى عبر استمالتها بدل استعمال أسلوب الإكراه أو دفع المال. تكشف استطلاعات الرأي تراجعاً لافتاً في شعبية الولايات المتحدة في الدول الأخرى بعد 2017، وقد تضاعف هذا الوضع في السنة الماضية حين أثبت ترامب قلة كفاءته في التعامل مع فيروس كورونا، ثم بدأت السنة الجديدة مع اقتحام مبنى الكابيتول، فصُدِم حلفاء البلد ودول أخرى بأحدث التطورات في واشنطن. هل تستطيع القوة الأميركية الناعمة أن تتعافى من هذه الضربات؟

تشتق القوة الناعمة من ثلاثة مصادر أساسية: ثقافة البلد، وقيمه السياسية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، وسياساته. قد تصبح الحكومة قدوة للآخرين بحسب تصرفاتها في الملفات الداخلية (حماية حرية الصحافة والحق بالاحتجاج مثلاً) وفي المؤسسات الدولية (عبر دعم جهود التنمية وحقوق الإنسان). كانت حادثة اقتحام مبنى الكابيتول يوم الأربعاء الماضي مريعة بمعنى الكلمة، ومع ذلك قد يتعافى منها الأميركيون.

Ad

يكون جزء كبير من موارد القوة الناعمة منفصلاً عن الحكومة ويجذب الآخرين إلى البلد رغم سياساته، إذ تُطوّر الشركات والجامعات والمؤسسات والكنائس والحركات الاحتجاجية شكلاً من القوة الناعمة الخاصة بها، وقد يُرسّخ هذا العامل نظرة الآخرين إلى الولايات المتحدة. حتى أن الاحتجاجات السلمية المحلية قادرة على إنتاج قوة ناعمة. لم يكن التحرك الأخير ضد مبنى الكابيتول سلمياً طبعاً بل شكّل تجسيداً مزعجاً لنجاح ترامب في بث الانقسامات السياسية، لكنّ ما حصل لم يكن انقلاباً، بل صمد المعسكر الوسطي وقامت المؤسسات بعملها ولم يمنع شيء المصادقة على فوز جو بايدن بالرئاسة.

زاد الانقسام السياسي في آخر عشرين سنة واستغل ترامب هذا الوضع لاستعمال الشعبوية كسلاح سياسي للسيطرة على الحزب الجمهوري، ورضخ له عدد كبير من أعضاء مجلس الشيوخ والكونغرس بسبب التهديدات التي تطرحها عليهم قاعدة ترامب، حيث يتمسك بعضهم بهذا الموقف حتى الآن، لكن في النظام الفدرالي الأميركي، تولى المسؤولون المحليون (جمهوريون، ديمقراطيون، مستقلون) إجراء الانتخابات رغم تفشي الوباء، وأنتجت الثقافة السياسية الديمقراطية في هذا البلد عدداً كبيراً من الأبطال المحليين، منهم أمناء ومشرّعون تصدّوا لترامب حين حاول ترهيبهم لتغيير خياراتهم الانتخابية.

ينعى الكثيرون الديمقراطية الأميركية منذ الآن، لكن يجب أن يتذكر هؤلاء أن انتخابات 2020 شهدت نسبة مشاركة غير مسبوقة لإسقاط حاكم ديماغوجي، فصمدت النتائج في أكثر من ستين محكمة تخضع لإشراف نظام قضائي مستقل يشمل عناصر عيّنهم ترامب بنفسه، وتأكدت نتيجة الانتخابات منذ أيام مجدداً في الكونغرس وصادق عليها أيضاً نائب الرئيس الجمهوري وزعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ.

لا يعني ذلك أن الديمقراطية الأميركية لا تزال مثالية، فلا شك أن ترامب استنزف عدداً من المعايير الديمقراطية ولا بد من إعادة ترسيخها، كذلك، تستمر الانقسامات الداخلية ويصدّق جزء كبير من مناصري ترامب أكاذيبه بشأن تزوير الانتخابات بدل تصديق الأدلة التي تقدّمها المحاكم. أثبت ثمانية أعضاء في مجلس الشيوخ وأكثر من مئة نائب جُبنهم أو انتهازيتهم السياسية، وترتكز نماذج العمل في مواقع التواصل الاجتماعي حتى الآن على أنظمة حلول حسابية تستفيد من التطرف، وبدأت الشركات تتجاوب ببطء مع هذه الألاعيب عن طريق ناشري نظريات المؤامرة.

قد يكون تاريخ 6 يناير 2021 يوماً مخزياً بقدر 7 ديسمبر 1941، أو قد يصبح نقطة تحوّل تاريخية حيث تبلغ ظاهرة "الترامبية" ذروتها ويبدأ السياسيون بتحمّل مسؤولية خطاباتهم. حتى اليوم، لا يزال جو بايدن يمثّل صوت العقل والهدوء، ولا يمكن أن نتوقع منذ الآن مدى قدرته على كبح الوباء وإعادة إحياء الاقتصاد وطرح ركيزة سياسية قادرة على تخفيف الانقسامات السائدة، لكننا قد نشهد على نهاية (لا بداية) حقبة سياسية خطيرة. في هذه الحالة، ستُمهّد صلابة الولايات المتحدة مجدداً لتعافي القوة الأميركية الناعمة.

جوزيف ناي - ناشيونال إنترست