أين منافع «بريكست»؟
ارتكزت خطة «بريكست» في الأصل على الفكرة القائلة بأن الاتحاد الأوروبي يستخف ببريطانيا والبريطانيين، وهذا ما يفسّر النجاح السياسي الهائل لهذه الحملة محلياً، لكن باستثناء الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، لم تكن «بريكست» يوماً عبارة عن برنامج لإحداث تغيير حقيقي، بل كان المعيار الوحيد لتقييم هذه السياسة يتعلق بعملية الانسحاب من الاتحاد.
مرّ أسبوعان منذ أن قطعت بريطانيا أخيراً جميع علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، فمن المبكر إذاً أن نتساءل عن تداعيات ما حصل. لكنّ الواقع الذي فرضته خطة «بريكست» في بداية 2021 واضح: ربما أصبحت بريطانيا الآن دولة مستقلة بالكامل، وهو عامل يهمّ الكثيرين، لكنّ وضعها اليوم يبدو أسوأ مما كان عليه قبل 1 يناير على جميع المستويات المادية.تشير الوقائع الراهنة إلى تفاقم جميع المشاكل المادية القائمة في المرحلة المقبلة، وينطبق هذا الوضع على سلاسل التوزيع تحديداً، فثمة حاجة إلى إعادة هندسة جميع سلاسل الإمدادات بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة خلال الأشهر المقبلة، وستكون تداعيات هذه الخطوة هائلة على مستوى الاقتصاد وفرص العمل، لا سيما في ظل تفشي فيروس كورونا اليوم. كذلك، سيكون تأثير هذا الوضع على الصيد حساساً من الناحية السياسية، ويعرف الجميع أن مستقبل أيرلندا الشمالية على المدى المتوسط بعد «بريكست» سيكون شائكاً.لكن تمتد الشكوك المرتقبة إلى مجالات أخرى من الاقتصاد والمجتمع، وبما أن لندن لم تعد المركز المالي للاتحاد الأوروبي، فلا مفر من أن تتراجع أهمية الخدمات المالية البريطانية، ومن المتوقع أيضاً أن تتراجع جاذبية الجامعات البريطانية بنظر الطلاب والباحثين. في الوقت نفسه، يزداد ضعف صناعة الفنون وقد اتضح ذلك مثلاً عبر قرار المايسترو سيمون راتل بالعودة إلى ألمانيا. وتعني تدابير الإقفال التام ومنع السفر تراجع التركيز راهناً على مشاكل السياحة التي تلي مرحلة «بريكست»، لكن ستعود هذه المسائل إلى الواجهة حتماً.
من مصلحة المحافظين و»حزب العمال» أن يعتبروا مرحلة «بريكست» جزءاً من الماضي. يريد بوريس جونسون أن يكون هذا الحدث جواز سفره لدخول التاريخ، لا سيما في ظل إخفاقاته في ملف كورونا. لا يظن رئيس «حزب العمال»، كير ستارمر، أن حزبه يستطيع كسب الأغلبية أو توحيد صفوفه عبر إعادة فتح الموضوع الأوروبي، لذا حاول هذا الأسبوع أن يغلق الملف المرتبط بحرية التنقل. قد يكون هذا الموقف مبرراً خدمةً لمصالحه الانتخابية الخاصة، لكن لا يعني ذلك أن مصلحة الحزب توازي المصلحة العامة. ارتكزت خطة «بريكست» في الأصل على الفكرة القائلة إن الاتحاد الأوروبي يستخف ببريطانيا والبريطانيين، وهذا ما يفسّر النجاح السياسي الهائل لهذه الحملة محلياً، لكن باستثناء الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، لم تكن «بريكست» يوماً عبارة عن برنامج لإحداث تغيير حقيقي، بل كان المعيار الوحيد لتقييم هذه السياسة يتعلق بكل بساطة بعملية الانسحاب من الاتحاد.تشكّل هذه البساطة حتى الآن جزءاً من نقاط قوة «بريكست» ونقاط ضعفها في آن، مما يعني ضرورة ملء جميع المجالات التي بقيت فارغة قبل عام 2016 وبعده، لكن تتطلب هذه العملية التعاون مع الاتحاد الأوروبي بدل منافسته في قطاع التجارة أو السياسة الخارجية بشكل عام، وفي هذا السياق، كتب روبين نيبليت، رئيس معهد الشؤون الخارجية «تشاتام هاوس»، هذا الأسبوع أن بريطانيا ستفشل بعد «بريكست» إذا حاولت أن تطرح نفسها مجدداً «كقوة عظمى مصغّرة»، كذلك، توقّع الوزير السابق ديفيد ليدينغتون أن تنشأ مع مرور الوقت أشكال متنوعة من «اتفاقيات الشراكة» بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي.لا تعني هذه المعطيات كلها أن عودة بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي خيار وارد في أي وقت قريب، لكن مع مرور الوقت، من المتوقع أن يضعف تأثير استفتاء «بريكست» في العامَين 2016 و2019، وفي المقابل لن تزول العلاقات النابضة والمتنوعة بين بريطانيا وأوروبا لأي سبب، بل ستبرز الحاجة إلى اتخاذ قرارات حاسمة والمضي قدماً في مرحلة معينة، وبطريقة أو بأخرى، لن تصبح العملية التي نسمّيها اليوم «بريكست» مسألة محسومة يوماً، فكل من يعتبرها كذلك يخدع نفسه!