طاعون أوروبا... ورفع الأجور
يقول الباحثون إنه من المعروف عن الطاعون أنه يبدأ بشواطئ البحار ثم ينتشر داخل البلاد، أما الموت الأسود فكان كذلك طاعونا دمليا عنيفا في عدواه ووبيلا إلى أقصى حدود الوبال، إلا أنه انتقل الى أوروبا كما في فيروس كورونا اليوم من الشرق الأقصى.
كان وباء "الموت الأسود" كما سُمي مرض الطاعون في العصور الوسطى كارثة مروعة اجتاحت أوروبا عامي 1347و 1348. ويقول "تشارلز سنجر" الباحث الإنكليزي في تاريخ الطب ضمن دراسة في موسوعة "تاريخ العالم" إن الوباء آنذاك كحالنا اليوم مع كورونا "داهم عالما لم يكن على استعداد إطلاقا لاتخاذ تدابير تعاونية اجتماعية"، ويضيف "سنجر" أن الموت الأسود أثر في خيال الناس أعمق التأثير، و"أحدث فيهم تفاعلا اجتماعيا واقتصاديا على جانب كبير من الأهمية". (تاريخ العالم، جون هامرتن، دار النهضة بمصر، ج5، ص541-559).ومن أعجب آثار هذا الطاعون أنه كان في الواقع من أسباب ارتفاع المستوى المعيشي في أوروبا وزيادة ثراء العامل والمزارع فيما بعد، رغم أنه أباد مئات الألوف نحو 30-50 في المئة من سكان أوروبا، وتسبب بذلك كما هو وضع اقتصاد العالم اليوم في عدد كبير من الانهيارات الاقتصادية. إن عهد البشرية بالأوبئة قديم، ويعدد الطبيب الاستشاري د.حسن محمد صندوقجي نماذج من انتشار الطاعون، فيقول في مقاله له: "إن ثمة ثلاثة أوبئة بشرية كبرى على مر التاريخ تم توثيق حصولها: الأولى طاعون جستنيان ما بين عامي 541 و544 الذي استمر بشكل متقطع حتى عام 750، والثانية سميت بالموت الأسود في أوروبا ما بين عامي 1347 و1351 على هيئة موجات وبائية متتالية أخف وطأة إلى نهاية القرن السابع عشر، والثالثة وباء طاعون الصين الذي بدأ فيها نحو عام 1850، وانتشر في عدد من مناطق العالم إلى منتصف القرن العشرين، وهناك أيضا حالات وبائية أقدم مثل طاعون أثينا عام 430 قبل الميلاد وطاعون أنطونيون عام 165 قبل الميلاد".
ويضيف أن الباحثين وجدوا آثار هذا المرض كذلك في عينات بشرية أوروبية وآسيوية تعود للعصر البرونزي. (الشرق الأوسط 30/ 10/ 2015). ويشرح سنجر دور وباء الطاعون في رفع الأجور، فيقول في تاريخ العالم المشار إليه للتو، إن الجائحة شلت حركة الزراعة وفسدت المحاصيل في الحقول، فكانت النتيجة الحتمية أن عم القحط "وأدت قلة الأيدي العاملة بعد موت نسبة كبيرة من السكان إلى نتائج اقتصادية بالغة الأهمية عميقة الأثر وخاصة في انكلترا".وكان المتبع في العهود الغابرة أن يُزرع معظم الأراضي بالسخرة، ثم ظهرت بالتدريج عادة أخرى وهي أن يقوم أرقاء الزراعة بأداء جعل نقدي عن حيازتهم مقابل بعض الإعفاءات، وكان أداء هذا الجعل قد أصبح عاما قبل أن يحل الموت الأسود، وتم عتق رقيق الأرض أو الأقنان، وأصبح اسمهم "الملتزمين بالتعريفة"، أي بالجعل النقدي، وكذلك ظهرت طبقة من عمال الزراعة يمكن استئجارهم. (الجُعل والجعالة ما يُجعل على العمل من أجر أو رشوة وجمعها جعائل، ويقال تجاعلوا الشيء: جعلوه بينهم. القاموس الوسيط).ويضيف المؤرخ سنجر: "كان من نتائج القحط الذي جاء في أعقاب الموت الأسود أن ارتفعت الأسعار ارتفاعا كبيرا، ومن ثم أصبح الأجر الذي كان يدفع قبلا بدل الخدمة لا يقوم بأود الأجير، وواجه ملاك الأراضي الذين كانوا قد قبلوا الفدية عن الأعمال الزراعية مشكلة جديدة، وهي أن الفدية المدفوعة من المستأجر في مقابل السخرية لا تكفي لاستئجار العمال اللازمين لخدمة أرضهم الخاصة، لأن ارتفاع الأجور يستلزم منطقيا ارتفاع الأسعار، وكانت أول خطوة لعلاج هذا الموقف أن سُنت تشريعات عمالية متلاحقة تحرم ارتفاع الاسعار والاجور، ولكن تبين أن تلك القوانين كانت غير مجدية بالرغم من الإجراءات الشديدة التي اتخذت لتنفيذها، وشرع الملاك لكي يخرجوا من مأزق يكاد يستحيل تفاديه، يؤجرون الأرض جميعها للمستأجرين ويمدونهم بحاجتهم من الماشية والبذور على أن يلتزم المستأجرون برد قيمتها في نهاية عقد الإيجار، ومن هذا النظام نظام عقود الماشية وإيجار الأراضي. نجد مبدأ ظهور طبقة الزراع الحديثة وهي تشمل المالك والفلاح المستأجر والعامل الزراعي، وهي التي حلت محل الطبقة التي كانت تتألف من المالك والعامل فحسب". ويتابع المؤرخ دراسة النتائج فيقول إن "قلة اليد العاملة التي ظهرت بعد الموت الأسود كانت في آخر الأمل عاملا حاسما في تحسين الحالة المعيشية للطبقة الكادحة تحسينا ملموسا". ومما يلفت النظر في دراسة سنجر التاريخية إشارته إلى أن كلمة طاعون بالانكليزية Plague تعني حرفيا الضربة (ص541) ونلاحظ أن المقابل العربي لها هي الطاعون وأصلها طعن، ويورد قاموس "المورد" المعاني الآتية لكلمة Plague: "آفة، بلاء، جائحة، وباء، طاعون، مصدر إزعاج، تفشٍّ، انتشار مفاجئ، ينزل به بلاء أو كارثة، يزعج، يغيظ، يعذب، ومنها كلمة Plaguey بمعنى مزعج".والمعروف عن الطاعون يقول الباحثون أنه يبدأ بشواطئ البحار ثم ينتشر داخل البلاد، أما الموت الأسود فكان كذلك طاعونا دمليا عنيفا في عدواه ووبيلا إلى أقصى حدود الوبال، إلا أنه انتقل الى أوروبا كما في فيروس كورونا اليوم من الشرق الأقصى كذلك ولكن من تركستان على الأرجح كما يقول "سنجر" وحمله إلى روسيا جنود التتر فاجتاح روسيا، ووصل عام 1348 الى مدينة "بيزا" الإيطالية.وقد أمر البابا "كليمنت السادس" وهو في منفاه في "أفينيون" بتشريح جثث الموتى لاكتشاف سر المرض، ولكن ذلك لم يكن مجديا لأن المجهر لم يكن قد وجد بعد".كيف تعايشت أوروبا مع الوباء آنذاك؟ سنرى!