مع تعبئة عسكرية غير مسبوقة، وفي حضور حشد متناثر بسبب الجائحة الصحية العالمية، شهدت العاصمة الأميركية، أمس، حفل تصيب لم يسبق له مثيل في التاريخ، أدى فيه الرئيس السادس والأربعون جو بايدن اليمين الدستورية خلفاً لغريمه الجمهوري دونالد ترامب، الذي غادر البيت الأبيض دون تقديم التهنئة أو الاعتراف بهزيمته، في أمر غير مسبوق منذ 150 عاماً.وبعد الأحداث الكارثية في 6 يناير، التي كشفت مرة أخرى الانقسامات السياسية العميقة، وزاد من صعوبة التحديات أمامه، قدّم بايدن نفسه، في حضور الرؤساء السابقين باراك أوباما وجورج بوش وبيل كلينتون بالصفوف الأمامية، على أنه موحّد الأميركيين.
ومع اتخاذ التنصيب نبرة أكثر قتامة منذ اقتحام مبنى "الكابيتول"، وقف بايدن أمام أكثر من 190 ألف علم نُصبت عوضاً عن الحشود التي تتدفق عادة في مثل هذا اليوم الى جادة "ناشونال مول" في واشنطن لرؤية الرئيس الجديد.وتحدث الرئيس المنتخب من الجبهة الغربية لمبنى "الكابيتول"، مؤكداً أنه "لا يخشى" الظهور في الأماكن العامة، وسيكون هناك "نشاط في المراجعة للتأكد من الجاهزية العسكرية"، على الجبهة الشرقية لمبنى "الكابيتول"، وهو تقليد يشمل كل فرع من أفرع الجيش، حيث يراجع القائد العام الجديد جاهزية القوات.وحث فريق بايدن الناس على البقاء في منازلهم، في حين تم تقليص التذاكر من 200 ألف تذكرة إلى نحو 1000 تذكرة فقط لأعضاء "الكونغرس" والرؤساء السابقين وكبار الشخصيات، وتم نشر 25 ألف عنصر من الحرس الوطني وآلاف الشرطيين من كل الولايات.وسيتم بثّ العديد من الأنشطة الرئيسية المحيطة بالتنصيب عبر الإنترنت، أو بثها على التلفزيون، بدلاً من أن تتم بشكل شخصي، بما في ذلك عرض افتراضي في جميع أنحاء البلاد، وعرض خاص في أوقات الذروة سيتم بثه ليلة الأربعاء. لكن فريق بايدن يمضي قدمًا ببعض التقاليد واللحظات المميزة التي ترمز إلى الانتقال السّلمي للسلطة.
اليوم الأول
وطبع بايدن، الذي تولى الرئاسة وهو في سن 78 عاماً بعد نصف قرن من الحياة السياسية، من اليوم الأول بصمته، بإصداره فور دخوله الى البيت الأبيض 17 أمراً رئاسياً كرّست الفارق مع عهد ترامب، وعاد فيها عن إجراءات اتخذها، ومنها التعهد بعودة الولايات المتحدة الى اتفاقية باريس حول المناخ، والى منظمة الصحة العالمية.وألغى أيضاً مرسوم الهجرة المثير للجدل الذي اعتمده سلفه لمنع رعايا دول ذات أغلبية مسلمة من دخول الولايات المتحدة. وعلّق أعمال بناء جدار على حدود المكسيك وتمويله بموازنة من "البنتاغون"، وهي مسألة أثارت في السنوات الأربع الماضية معارك سياسية وقضائية حادة.وتمسّك بايدن برفع شعار الوحدة، وهو يؤكد أنه قادر على إعادة اللحمة بين الأميركيين لكي يواجهوا يدا واحدة الأزمات.ومد الرئيس الجديد "اليد لكل الأميركيين، ودعا كل مواطن للعب دور في التصدي للتحديات الاستثنائية التي نواجهها جميعا".وفي خطوة ترمز إلى روحية جديدة في القيادة، دعا بايدن زعماء "الكونغرس" الجمهوريين والديمقراطيين إلى المشاركة معه في صلاة قبل حفل تنصيبه.ووافق زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل الذي كان حتى الآونة الأخيرة أحد أقرب حلفاء ترامب، على المشاركة في هذه الصلاة في كاتدرائية القديس متى.ودخل يوم أمس كتب التاريخ في الولايات المتحدة، خصوصاً بسبب تولي كاميلا هاريس منصب نائب الرئيس كأول امرأة وأول سوداء من أصول هندية تفوز بهذه المكانة.وفي الساعة 8:45 صباحا بتوقيت واشنطن، أدت هاريس وزوجها دوغلاس إيمهوف، الصلاة في كاتدرائية سانت ماثيو، مع السياسيين والبرلمانيين.وفي العاشرة والنصف، وصلا إلى مبنى "الكابيتول"، مقر مجلسي النواب والشيوخ، حيث أدى الرئيس الجديد ونائبته اليمين الدستورية عند الساعة 11:15 بالتوقيت المحلي.وفي تمام الساعة 12 ظهرا، أعلن أن بايدن هو الرئيس السادس والأربعون للولايات المتحدة، وألقى كلمة هي بمنزلة افتتاح لفترة رئاسته، قبل أن يستأنف برنامجه في المساء، وحضر على الساعة 8:48 مع السيدة الأولى جيل بايدن ونائبته وزوجها برنامج "الاحتفال بأميركا"، وسيتحدث الرئيس وزوجته مجددا. وفي تمام الساعة 9:55 مساء، ظهر الرئيس والسيدة الأولى في شرفة الغرفة الزرقاء بالبيت الأبيض.ضحايا «كورونا»
وبعيد وصوله الى واشنطن، أمس الأول، وجّه بايدن تحية إلى 400 ألف أميركي حصد أرواحهم فيروس كورونا، في تناقض صارخ مع موقف ترامب الذي عمد منذ أشهر الى التقليل من أهمية أثر الوباء.وقال في كلمة مقتضبة بمراسم خاصة لإحياء ذكرى الضحايا، إنّه "من أجل أن نُشفى، يجب أن نتذكّر. من الصعب أحياناً أن نتذكّر، لكن هذه هي الطريقة التي نُشفى بها، ولهذا السبب نحن هنا اليوم". وللمرة الأولى، أضيئت خلفه حول بركة الماء الضخمة الواقعة أسفل النصب في ساحة "ناشونال مول" 400 شمعة إحياءً لذكرى الأميركيين الذين راحوا ضحايا الفيروس الفتّاك.وهذه هي المرة الأولى التي يضيء فيها الأميركيون بهذه الطريقة هذه البركة الشهيرة التي تجمّع حولها في عام 1963 آلاف الأشخاص للاستماع إلى مارتن لوثر كينغ وهو يلقي، من على درجات، نُصب أبراهام لنكولن التذكاري، خطابه التاريخي "لديّ حلم".وقبل ساعات، وعند مغادرته معقله ديلاوير، كان أكبر الرؤساء الأميركيين سناً شديد التأثر واغرورقت عيناه بالدموع. وقال بايدن: "اعذروني لتأثري، عندما سأموت ستكون ديلاوير محفورة في قلبي"، مستعيداً أقوال الكاتب الإيرلندي جيمس جويس.إنجازات ترامب
ومع أنه تمنّى أخيراً حظاً موفقاً للإدارة الجديدة في رسالة فيديو، فإن ترامب المتقلب، الذي لم يهنئ أبداً بايدن، وهو أمر غير مسبوق منذ عام 1869 ولم يحضر حفل تنصيبه، آثر عدم ذكر اسم خليفته في خطابه الوداعي المسجل من البيت الأبيض الذي استعرض فيه ما وصفها بإنجازاته خلال 4 سنوات.وفي ختام ولاية شهدت سيلاً من الفضائح وإجراءات "عزل" لمرتين، غادر ترامب السلطة ومستويات التأييد الشعبي له في أدنى مستوياتها، ومقطوعا عن قسم من معسكره الذي روّعه مشهد اقتحام "الكونغرس" من قبل أنصار الرئيس المنتهية ولايته.وبعد حفل قصير في قاعدة أندروز بضواحي واشنطن، غادر للمرة الأخيرة على متن الطائرة الرئاسية "إير فورس وان" إلى ناديه في مارالاغو بولاية فلوريدا، ليبدأ حياته الجديدة كرئيس سابق.وقال ترامب، في خطاب وداعي سجّل الاثنين وأعلنه البيت الأبيض مساء الثلاثاء، إن هذا الأسبوع ستبدأ إدارة جديدة ونصلي من أجل نجاحها في الحفاظ على سلامة أميركا.وخلافا لخطاباته السابقة، أكد ترامب أن الحركة التي بدأها ما زالت في بدايتها، وستصبح أكثر قوة مع الوقت، في إشارة إلى الشعار الذي رفعه منذ البداية بجعل أميركا عظيمة.وفي إشارته إلى اقتحام أنصاره مبنى "الكابيتول"، قال ترامب إن العنف السياسي هو هجوم على كل ما نعتز به كأميركيين، ولا يمكن التسامح معه أبدا، مضيفا أن جميع الأميركيين شعروا بالرعب من الهجوم على المبنى.وعلى الصعيد الداخلي، تحدث ترامب عن توقيع قانون تمويل العناية الصحية وإنتاج لقاحي كورونا بسرعة قياسية، وتمرير إصلاحات لنظام العدالة الجنائية وتعيين 300 قاض فدرالي من أجل تفسير الدستور بشكل أفضل، مشيراً إلى أنه أعاد بناء الجيش الأميركي بمعدات صنعت في الولايات المتحدة، ولبّى رغبة الأميركيين وأمّن حدود البلاد بطريقة تاريخية.وقال: "حاربت لأجلكم ولأجل بلدنا الحر المستقل"، مؤكدا "الإيمان بالهوية الأميركية والتركيز على إرثها المشترك".وعلى الصعيد الخارجي، أوضح ترامب أن إدارته أصلحت اتفاقات تجارية وانسحبت من اتفاق باريس للمناخ. وأضاف: "وقفنا في وجه الصين وقضينا على (أبوبكر) البغدادي، وقتلنا الإرهابي الأكبر قاسم سليماني".قاعدة أندروز
وأمس، وبعد مغادرة البيت الابيض على متن مروحية "مارين 1" الرئاسية الى قاعدة أندروز، ثم توجهه الى فلوريدا على متن «أير فورس ١» من دون مراسم وداع عسكرية ، قال ترامب في القاعدة الجوية: "حققنا الكثير في 4 سنوات رائعة جداً، وأتمنّى ألا يكون الوداع لفترة طويلة". وفي كلمة مقتضبة أيضا بعد إطلاق المدفعية لتحيته، قال ترامب:" شعبيتي مرتفعة جداً وإنجازاتي استثنائية". وقال ترامب: "حصلنا على 75 مليون صوت، وهو رقم قياسي"، مضيفاً: "تلقينا صفعة بكورونا، ولولا أزمة الفيروس الصيني لحققنا إنجازات غير مسبوقة"، معتبرا أن إدارته حققت إنجازا تاريخيا بالتوصل الى لقاح في فترة قياسية.وقالت CNN إن ترامب ترك رسالة سرية لبايدن في البيت الأبيض، وكذلك تركت ميلانيا رسالة لسيدة البيت الابيض الجديدة.وبعث 17 نائباً جمهورياً رسالة لبايدن اعربوا فيها عن تطلعهم للعمل معه.اليوم الأخير
وقبل ساعات من مغادرته واشنطن، أصدر ترامب عفوا عن 73 شخصاً، أحدهم مستشاره السابق ستيف بانون، أحد مهندسي حملته الرئاسية في عام 2016.ونشر البيت الأبيض، في بيان فجر أمس، لائحة الأشخاص الذين شملهم العفو الرئاسي الى جانب 70 آخرين خففت عقوباتهم، ويرجح أن تثير اتهامات بالمحسوبية في نهاية عهد وعد خلاله الرئيس بـ "تطهير" أروقة السياسة في واشنطن.لكن لا ترامب ولا أقرباءه وردت أسماؤهم على اللائحة، وسط تكهنات أشارت الى انه قد يعمد الى استخدام هذا التكتيك من العفو الوقائي لصدّ اتهامات قد توجّه ضده في المستقبل.وفي ظل تدهور علاقته مع عدد من قادة الحزب الجمهوري، وعلى رأسهم زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ، ذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال" أن ترامب بحث مع معاونيه فكرة إنشاء حزب سياسي جديد، في "مسعى لممارسة تأثير مستمر بعد مغادرته البيت الأبيض"، موضحة أنه ينوي تسميته "الحزب الوطني" (Patriot Party).وأمر ترامب برفع السريّة عن الأجزاء غير المنقحة من التحقيق في التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية. وقال في مذكرة له: "تم إجراء بعض التنقيحات على الوثائق من أجل السماح بالكشف عنها علنا".وكان تحقيق قاده المدعي الخاص روبرت موللر قد توصل إلى استنتاج أكد "عدم دخول روسيا وحملة ترامب في أي تآمر خلال فترة انتخابات 2016"، إلا أنه لم يدحض المزاعم حول محاولات السلطات الروسية التأثير على سير الانتخابات الرئاسية والتشريعية في الولايات المتحدة، وهو ما نفته موسكو مرارا.