عصر ميركل قد يكون بداية كل شيء!
لم يكن اسم أنجيلا ميركل مطروحاً بين المرشحين خلال مؤتمر حزبها الديمقراطي المسيحي يوم السبت الماضي، حتى أنها لم تصعد على المسرح في أي لحظة، ومع ذلك خيّم حضورها على الحدث كله.قرر الحزب في ذلك اليوم دعم مرشّحها المفضل أرمين لاشيت، رئيس وزراء ولاية شمال الراين وستفاليا، يشير هذا القرار إلى توجّه "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" نحو التمسك بمسار ميركل على المدى القصير، حتى أن هذا الحدث كان بمثابة اعتراف رسمي بأن ميركل تركت وراءها بصمة راسخة في أكبر حزب سياسي ألماني، ومن المتوقع أن تُحدد هذه البصمة مسار الحزب خلال السنوات المقبلة.يعترض عدد كبير من المحافظين الألمان على سياسات ميركل في ملف اللاجئين والاقتصاد وحتى طريقة التعامل مع وباء كورونا. في آخر سنتين، حصل هذا المعسكر على فرصتَين لإنهاء عهد ميركل لكنه فشل في المرتين.
وعندما سنحت الفرصة لإرجاع الزمن إلى الوراء وتجديد المقاربة المحافِظة التقليدية في "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" للتعامل مع المسائل الاجتماعية والاقتصادية، فضّل مندوبو الحزب التمسك بالمقاربة الوسطية الشاملة التي تبنّتها ميركل.يواجه لاشيت مهمة صعبة تقضي بتوحيد صفوف الحزب لدعمه قبيل مجموعة من الاستحقاقات الانتخابية المحلية في المرحلة المقبلة، وحتى لو اضطر للتنحي وفتح المجال أمام رئيس وزراء ولاية بافاريا المحبوب، ماركوس سودر، في السباق على منصب المستشار الألماني، من المستبعد أن تتخلى كتلة المحافظين في ألمانيا عن استراتيجية ميركل.يكفي أن نلقي نظرة سريعة على سجل المستشارة الألمانية لمعرفة السبب، فطوال 16 سنة، نجحت ميركل في السيطرة على السياسة الألمانية عبر تجاوز الانقسام الأيديولوجي، ربما خسر الحزب دعم بعض المحافظين بسبب مقاربتها (انتقل بعضهم إلى حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف) لكن توسّعت شعبيته في المقابل، لا سيما وسط النساء: إنها فئة أساسية لتحقيق الفوز في الانتخابات.كان تصويت يوم السبت اعترافاً واضحاً بضرورة أن يتطور "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" بما يتماشى مع المجتمع الألماني إذا أراد الحفاظ على هيمنته، وذلك عبر تبنّي مقاربة ليبرالية أكثر مرونة في مواضيع عدة. يسمّي الكثيرون هذه الاستراتيجية "الميركلية".ميركل أولاً ثم الحزب للوهلة الأولى، قد لا يبدو فوز لاشيت على فريدريش ميرتس، المحافِظ التقليدي الذي كان المرشّح الأوفر حظاً في معسكر اليمين داخل "الاتحاد الديمقراطي المسيحي"، قوياً بما يكفي، فقد فاز لاشيت بـ53% من الأصوات مقابل 47% لصالح ميرتس، لكن في عصر السياسات المفككة، حيث يتحدد مصير بعض الانتخابات الوطنية عبر عدد صغير من الأصوات، يُعتبر التفوق بفارق 5% فوزاً ساحقاً. لكن لم يكن لاشيت الشخص الوحيد الذي تفوّق على ميرتس، خصم ميركل منذ عقود، فقد خسر أيضاً منذ سنتين أمام أنغريت كرامب كارينباور، المرشّحة الأولى التي اختارتها ميركل لاستلام منصبها بعدها، بعبارة أخرى، تقررت وجهة الجدل المرتبط بمسار "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" في المستقبل المنظور.لم تترك ميركل أي مجال للشك يوم السبت، فقد عرض ميرتس، بعد ساعات قليلة على خسارته، الانضمام إلى حكومتها كوزير اقتصاد، وهو منصب يشغله راهناً بيتر ألتماير المقرّب من ميركل، لكنها رفضت هذه الفكرة سريعاً عبر المتحدث باسمها على اعتبار أنها لا تخطط لإجراء أي تعديل وزاري.تحرص ميركل الآن على تحقيق مكاسب سياسية نادرة في الأنظمة الديمقراطية البرلمانية من خلال تحديد توقيت رحيلها من السلطة واختيار خَلَفها وأجندة حزبها على المدى الطويل.سواء تعلقت المسألة بالسياسة الخارجية أو الاقتصاد، لم يُخْفِ لاشيت نيّته تطبيق سياسات مستوحاة من مقاربة ميركل.حتى موقف لاشيت من المندوبين كان يحمل لمسة "ميركلية" بامتياز، فصرّح خلال المؤتمر الحزبي: "قد لا أكون رجلاً يحب الاستعراض، لكني أرمين لاشيت ويمكنكم أن تثقوا بذلك".شجّع لاشيت زملاءه المحافظين أيضاً على تقبّل واقعٍ لا يتكلم عنه الجميع، فقال: "ينجذب الكثيرون إلى أنجيلا ميركل أولاً ثم "الاتحاد الديمقراطي المسيحي"، ولا يمكن نقل المصداقية التي تتمتع بها ميركل محلياً وخارجياً من زعيم إلى آخر، بل لا بد من اكتسابها".لا يحكم التاريخ على القادة السياسيين بناءً على إنجازاتهم أثناء وجودهم في السلطة فحسب، بل يتأثر هذا الحُكم أيضاً باستمرارية نفوذهم في المرحلة اللاحقة، وقد اتخذ "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" خطوة كبرى تمهيداً لوضع ميركل في مصاف كبار الشخصيات من أمثال هلموت كول ومارغريت ثاتشر، ومن الواضح إذاً أن عصر ميركل لا يوشك على الانتهاء، حتى أنه قد يكون بداية كل شيء.