عندما يحين الوقت لتقييم الإرث الدولي للرئيس الأميركي جو بايدن، ستكون إحدى المتغيرات مهمة جداً: العلاقات التي تُقيمها إدارته مع الصين. لقد أصبحت المنافسة الصينية الأميركية القضية الجيواستراتيجية العالمية الرئيسة، لكن شروطها بعيدة كل البعد عن أن تكون مُحددة بشكل نهائي، فعلى الرغم من التنافس الواضح بينهما، يتعين على الولايات المتحدة والصين محاولة فهم بعضهما، ومن المؤكد أن بايدن سيتصرف بمهارة ومسؤولية وانفتاح أكثر من سلفه، وسيعتمد السلام والازدهار العالميين في القرن الحادي والعشرين إلى حد كبير على نوعية العلاقات الثنائية الأكثر أهمية في العالم.

يُعد التعاون بين الولايات المتحدة والصين أمرا ضروريا لحل التحديات العالمية الكبرى، بدءا من الخطر الكامن المُتمثل في حدوث محرقة نووية إلى تغير المناخ، والإرهاب الدولي، وانتشار أسلحة الدمار الشامل، والأوبئة، وفي الوقت نفسه، لا يمكن تجنب المنافسة– بل هي مُرحب بها- في التجارة والتكنولوجيا والفضاء والرياضة والعديد من المجالات الأخرى.

Ad

في سبيل نجاح هذه العلاقة المُعقدة، يجب أن تتفق كلتا القوتين على مجموعة مشتركة من القواعد، بدلا من محاولة فرض قواعدهما الخاصة بشكل مُنفرد، ويُعد تحديد القنوات المُتعددة الأطراف لإنعاش منظمة التجارة العالمية ومنظمة الصحة العالمية أمرا مُلحّا بشكل خاص. تتمثل أولوية أخرى في وضع معايير للفضاء الإلكتروني للحد من عمليات القرصنة الإلكترونية الضخمة مثل اختراق برنامج شركة "سولار ويندز" الذي تم اكتشافه مؤخرا في الولايات المتحدة، والذي يبدو أنه عمل مُرتبط بروسيا.

يجب أن تستبعد العلاقة المبنية على التعاون والمنافسة المُواجهة المفتوحة التي يسعى إليها ترامب ورفاقه الصقور، فقد أطلقت إدارة ترامب، التي تعتبر الصين تهديدا وجوديا، حربا جمركية وتكنولوجية من المُتوقع أن ترد عليها الحكومة الصينية بشكل حازم. في رسالة مفتوحة نُشرت في عام 2019، أعرب 100 من كبار خبراء السياسة الخارجية والأمن في الولايات المتحدة عن قلقهم من أن معاملة الصين كما لو كانت عدوا قد تُساهم في تقويض الثقة الاستراتيجية وتمهيد الطريق لتُصبح كذلك، وكما حذر جيك سوليفان (مستشار الأمن القومي لبايدن) وكورت إم كامبل (منسق البيت الأبيض المعين لمنطقة المحيط الهادئ الهندي)، فإن هذه الحلقة المُفرغة قد تنتهي بكارثة.

يُذكرنا هذا الخطر بأكثر خطابات الرئيس جون ف. كينيدي تميزا، قبل خمسة أشهر فقط من وفاته في عام 1963، فبعد أن شهد كينيدي كيف عرّضت أزمة الصواريخ الكوبية العالم إلى خطر وجودي، أصبح مقتنعا بأن المنافسة السلمية مع الاتحاد السوفياتي كانت حتمية قاطعة، واعتمادا على المفاهيم الأساسية للتضامن الإنساني، تحدث عن السلام باعتباره "الغاية العقلانية الضرورية للرجال العُقلاء". وكما علِم كينيدي جيدا، فإن مفهوم "التدمير المؤكد المتبادل" ليس ضمانا مُطلقا للسلام إذا سلك القادة طريق المواجهة، وعلى الرغم من أن الوضع الحالي مختلف تماما عن الحرب الباردة، فإنه يتعين على الولايات المتحدة والصين توخي الحذر وإيجاد حلول مؤقتة قبل ظهور خطر جديد.

في هذا الصدد، من الأهمية بمكان أن يتم تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان في الولايات المتحدة- والذي يُعد من الحكمة أن يُصر بايدن على تحقيقه- على نحو هادئ ومُتسق ومعقول، وتُعد الجهود المبذولة لحماية الديمقراطية الليبرالية ضرورية، شأنها شأن الجهود الرامية إلى منع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، لكن هذا يختلف عن محاولة فرض قيم أو سلوكيات مُعينة على الآخرين من خلال "تغيير النظام"، كما يُفضل بعض كبار مسؤولي إدارة ترامب فيما يتعلق بالصين، وعلاوة على ذلك، لن تُظهر الولايات المتحدة التزاما حقيقيا بهذه القيم من خلال استخدامها بشكل انتهازي أو انتقائي، كما حدث خلال رئاسة ترامب.

في كتابه الرائع عن الصين لعام 2011، يشرح وزير الخارجية الأميركي السابق ومستشار الأمن القومي هنري كيسنجر تفاصيل التقارب الصيني- الأميركي الذي ساعد في صياغته قبل نصف قرن، ويذكر كيسنجر أنه في عام 1972، خلال أول رحلة قام بها رئيس أميركي إلى الصين الشيوعية، قال ريتشارد نيكسون لرئيس الوزراء الصيني تشو إنلاي: "نحن نعلم أنك تؤمن إيمانا عميقا بمبادئك، ونحن نؤمن بشدة بمبادئنا. نحن لا نطلب منك التنازل عن مبادئك، كما لا نرغب أن تطلب منّا التخلي عن مبادئنا". ويُضيف كيسنجر: "إذا كان تبني المبادئ الأميركية للحكم هو الشرط الأساسي للتقدم في جميع المجالات الأخرى للعلاقة، فإن حدوث أزمة أمر لا مفر منه"، ولا يزال هذا الاستنتاج صالحا اليوم.

وإن أفضل طريقة أمام أميركا لتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان هي من خلال القيادة "بقوة مثالنا"، كما أكد بايدن في خطابه الافتتاحي، وسيتطلب ذلك من الولايات المتحدة استعادة قيم التعايش المدني وإصلاح الأضرار المحلية التي سببها ترامب، والتي بلغت ذروتها بتحريضه على التمرد العنيف في عملية اقتحام "الكابيتول الأميركي" في وقت سابق من هذا الشهر، وإن تحقيق هذا الهدف سيُمكن أميركا من استعادة "القوة الناعمة" التي مثلت تاريخيا إحدى الركائز الأساسية لنفوذها الدولي.

وعلى نحو مماثل، يُدرك بايدن أنه من غير المُجدي إجبار الدول الأخرى على اختيار جانب بين الولايات المتحدة والصين، كما حاول ترامب أن يفعل أحيانا، إذ تعتمد معظم الدول اليوم على كلتا القوتين العظيميين سواء من الناحية الاقتصادية أو الأمنية، لذلك تُفضل تجنب النزاعات واستكشاف أوجه التوافق.

وعلى الرغم من أن جيران الصين في آسيا والمحيط الهادئ يأملون أن تحتفظ الولايات المتحدة بوجودها الإقليمي، فقد وقعوا مع الصين مؤخرا اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة البالغة الأهمية، وهي أكبر اتفاقية للتجارة الحرة في العالم من حيث عدد السكان والناتج المحلي الإجمالي، وأول اتفاقية على الإطلاق تشمل الصين واليابان وكوريا الجنوبية، ومن جانبه، وضع الاتحاد الأوروبي بالفعل برنامجا طموحا للتعاون مع إدارة بايدن يتوافق تماما مع تطبيق "استقلاليتها الإستراتيجية"، وفي نهاية عام 2020، وضعت المفوضية الأوروبية برنامجا مُماثلا من خلال إبرام اتفاقية استثمار شاملة مع الصين.

وإن العلاقة بين الولايات المتحدة والصين "أكبر من أن تفشل"، لذلك يتعين على كلا البلدين اغتنام الفرصة لوضع أسس جديدة للعلاقات، لأن استمرار التدهور من شأنه جلب مخاطر غير مقبولة لهما وللعالم بأسره، وإن إطار التعايش السلمي الذي يأمل بايدن وفريقه إيجاده يتطلب الحفاظ على توازن جيد بين المبادئ والواقع، ومن المؤكد أن الجمع بين المنافسة والتعاون لن يكون سهلا على الدوام، لكن الإدارة الأميركية الجديدة على أتم استعداد لاجتياز هذا الاختبار الحاسم المُحدد لهذا العصر.

* خافيير سولانا الممثل الأعلى السابق للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، والأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ووزير خارجية إسبانيا، ورئيس (EsadeGeo) مركز الاقتصاد العالمي والجغرافيا السياسية وزميل متميز في معهد بروكينغز. وأوجينيو بريغولات هو السفير الإسباني السابق لدى الصين، وزميل أقدم في مركز (EsadeGeo) ومؤلف كتاب «الثورة الصينية الثانية».

خافيير سولانا وأوجينيو بريغولات - بروجيكت سنديكيت