الأثر الفوري لتطبيق القضاء الجزائي في قانون البلدية
صدر قانون البلدية في 4 يونيو 2016، وتم العمل به من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية بتاريخ 12/7/2016، وقد نصت المادة 52 من هذا القانون على أن «يلغى القانون 5 لسنة 2005 المشار إليه كما يلغى كل حكم يخالف أحكام هذا القانون».يجب الإشارة ابتداء إلى أن قانون البلدية الجديد قد تضمن بعض القواعد الموضوعية المتعلقة بالجرائم والعقوبات، وهذه لا خلاف على انطباقها بأثر فوري ومباشر على الجرائم التي تقع بعد العمل به قولا واحدا، أما القواعد القانونية الإجرائية القضائية التي تضمنها القانون الجديد فتمثلت بشكل أساسي في نص المادة 46 من القانون رقم 33 لسنة 2016، الذي جرى على «أن تنشأ بقرار من المجلس الأعلى للقضاء دائرة واحدة أو أكثر بالمحكمة الكلية تشكل من ثلاثة قضاة تختص دون غيرها بالنظر في الجرائم التي ترتكب بالمخالفة للوائح التي تصدرها البلدية، وتستأنف الأحكام الصادرة من هذه الدائرة أمام محكمة الاستئناف في دائرتها الجزائية»، والذي لم يحدد الأحكام الانتقالية لتطبيقه سواء بالنسبة للدعاوى التي عرضت على دوائر البلدية قبل استحداث هذا النص وقضى فيها غيابياً أو حضورياً، وكذلك الطعون بالاستئناف التي عرضت على دوائر جنح مستأنف، ثم طعون التمييز أمام هيئة تمييز الجنح بمحكمة الاستئناف، وهو ما أثار الكثير من التساؤلات التي تحتاج إلى تأصيل سنعرض له بشيء من التفصيل على النحو التالي:لا خلاف بين جمهور فقهاء قانون الإجراءات الجنائية على أن قواعد تنظيم اختصاص القضاء الجنائي تسري بأثر فوري ومباشر فور نفاذ القانون على نحو يكاد يتحقق به الإجماع على هذه المسألة، لكن وقعت بعض الخلافات التي أراها غير منتجة بشأن مناط أعمال هذا الأثر الفوري فميز بعض الفقهاء بين مجموعتين من القواعد الإجرائية محل البحث:
المجموعة الأولى
قواعد تنظيم القضاء الجزائي كتلك التي تلغي محكمة قائمة وتنقل اختصاصاتها إلى محكمة أخرى مستحدثة أو قائمة، فقرر الفقهاء في شبه إجماع بأن مناط انطباق تلك القواعد بأثر فوري ومباشر على جميع الدعاوى المطروحة على القضاء وقت نفاذ القانون، وإحالتها إلى المحكمة الجديدة أو المستحدثة هو عدم صدور حكم بات فيها، فكل دعوى جزائية لم يصدر فيها حكم بات وأدركها القانون الجديد الذي نقل الاختصاص بنظرها إلى دائرة جديدة تحال إلى المحكمة المختصة وهي قاعدة متعلقة بالنظام العام تقضي بها المحكمة من تلقاء ذاتها وتثيره نيابة النقض أو التمييز ولو لم يتمسك به أي من الخصوم، ومن ثم لا يحق للمتهم التمسك بأي قاعدة قديمة أو مركز قانوني مكتسب، لأن الأمر يتعلق بقواعد متعلقة بالنظام العام تتقدم فيها المصلحة العامة للمجتمع على أي مصلحة شخصية، وذلك كله يقوم على قرينة افتراض أن القانون الجديد هو القانون الأصلح للجماعة مهما حققه للخصوم من ضرر أو فائدة ذاتية، وهذا الرأي لم يشذ عنه غالب الفقه، وأخذت به محكمة النقض المصرية، إذ قضت بأنه (لما كان القانون 105 لسنة 1980 بإنشاء محاكم أمن الدولة والمعمول به اعتبارا من أول يونيو سنة 1980 - قبل الحكم المطعون فيه - يتضمن في الفقرة الأولى من مادته الثالثة النص على أن «تختص محاكم أمن الدولة العليا دون غيرها بنظر الجنايات المنصوص عليها في الأبواب الأول والثاني والثاني مكرر والثالث والرابع من الكتاب الثاني من قانون العقوبات، والجرائم المرتبطة بها»، كما تضمن النص في المادة التاسعة منه على أنه «على المحاكم أن تحيل من تلقاء نفسها ما يوجد لديها من دعاوى أصبحت من اختصاص محاكم أمن الدولة بمقتضى ذلك القانون بالحالة التي تكون عليها بدون رسوم».المجموعة الثانية
قواعد تنظيم اختصاص القضاء الجنائي وهي القواعد التي لا تلغي محكمة قائمة وتستحدث محكمة جديدة، وإنما فقط تعدل من اختصاص المحاكم القائمة فيما بينها بالنقص أو الزيادة، وهنا وضع بعض الفقهاء معايير قد لا تخرج عن ثلاثة:1- معيار وقت رفع الدعوى الجزائية أمام المحكمة بحيث إذا رفعت الدعوى إلى المحكمة قبل نفاذ القانون المعدل للاختصاص تستمر في نظرها إلى أن يصدر فيها حكم بات.2- معيار قفل باب المرافعة، ويعني أن المحكمة باشرت نظر الدعوى وسمعت المرافعة وقررت حجزها للحكم فتستمر في استكمالها حتى صدور حكم بات فيها.3- معيار صدور حكم ابتدائي في موضوع الدعوى الجزائية فتستمر المحكمة في إجراءات المحاكمة والطعن وفقا للقانون القديم، وذلك حتى صدور حكم بات فيها، ولا شك في أن حجج هؤلاء الفقهاء بشأن معاييرهم الثلاثة التي تدور حول نظرية الحق المكتسب وتعلي المصلحة الشخصية للمتهمين على المصلحة العليا للمجتمع وتتشبث بفكرة توفير الوقت والجهد وحسن سير العدالة هي حجج واهية - من وجهة نظري - ولا تقدم مبررا مقبولا يدعو إلى تبني اختلاق تفرقة بين المتهمين أمام القضاء الجزائي في الدعاوى المتماثلة على نحو يخلق الاضطراب ويهدر قانونا إجرائيا ساريا تتعلق قواعده بالنظام العام، وهو سبب بحد ذاته يكفي للرد على أي صوت يناهض التردد في تطبيق الأثر - الفوري والمباشر على كل الدعاوى الجزائية التي لم يصدر فيها حكم بات قبل نفاذ القانون الإجرائي الجديد سواء تعلق الأمر بتنظيم القضاء الجزائي أو بتنظيم اختصاصه سواء بسواء، وقد قضت محكمة النقض تأييدا لذلك بأن «القوانين الإجرائية تسري من يوم نفاذها على الإجراءات التي لم تكن قد تمت، ولو كانت متعلقة بجرائم وقعت قبل نفاذها، وأن القوانين المعدلة للاختصاص تطبق بأثر فوري وشرط ذلك أن تكون الدعوى لم يفصل فيها بحكم بات».اختصاص
كما قضت أيضا بأن «الأصل أن قوانين الإجراءات تسري من يوم نفاذها على الإجراءات التي لم تكن قد تمت ولو كانت متعلقة بجرائم وقعت قبل نفاذها، وقد جرى قضاء محكمة النقض على أن القوانين المعدلة للاختصاص تطبق بأثر فوري شأنها في ذلك شأن قوانين الإجراءات فإذا عدل القانون من اختصاص محكمة قائمة بنقل بعض ما كانت مختصة بنظره من القضايا طبقا للقانون القديم إلى محكمة أو جهة قضاء أخرى فإن هذه الجهة الأخيرة تصبح مختصة ولا يكون للمحكمة التي عدل اختصاصها عمل بعد نفاذ القانون الجديد - ولو كانت الدعوى قد رفعت إليها بالفعل طالما أنها لم تنته بحكم بات، وذلك كله ما لم ينص الشارع على أحكام وقتية تنظم مرحلة الانتقال».وعليه فإن إعمال الأثر الفوري والمباشر للنصوص الإجرائية الجزائية النافذة المتعلقة بتنظيم واختصاص القضاء الجزائي سواء ألغت اختصاص محكمة وأسندته إلى محكمة أخرى قائمة أو مستحدثة يوجب إحالة كل الدعاوى التي لم تفصل فيها المحاكم بحكم بات إلى المحكمة المختصة وفقا للقانون الجديد، ولا يوجد أي تعارض بين المستقر عليه من أن الطعن على الحكم يخضع للقانون الساري وقت صدوره، إذ إن المحكمة المختصة بنظر الطعن أمر منبت الصلة عن طريق الطعن ذاته في مجال تطبيق الأثر الفوري المباشر للنصوص التي تحدد الاختصاص القضائي، وهو ما اتجهت إليه محكمة النقض المصرية على نحو ما سلف في العديد من الأحكام، وأصبح من الواجب على المحاكم التخلي عن أي دعوى جزائية أصبحت من اختصاص محكمة أخرى، وعلى محاكم الطعن أن تقضي بإلغاء الحكم المطعون فيه، وإحالة الدعوى إلى المحكمة المختصة وفقا للقانون الجديد الذي أدرك الطعن أمامها.محكمة الاستئناف
وإذ كان نص المادة 46 من قانون البلدية رقم 33 لسنة 2016 قد استحدث دائرة مشكلة من ثلاثة قضاة تختص دون غيرها بنظر الجرائم التي ترتكب بالمخالفة للوائح التي تصدرها البلدية، كما نقل الاختصاص بنظر استئناف أحكام تلك الدائرة إلى محكمة الاستئناف العليا في دائرتها الجزائية، وترتب على ذلك نقل الاختصاص بنظر الطعون بالتمييز على تلك الأحكام الصادرة من الدائرة الجزائية بمحكمة الاستئناف إلى محكمة التمييز، عملا بالقواعد العامة في حالات وإجراءات الطعن بالتمييز، فإن هذه القواعد تسري على كل دعوى لم يصدر فيها حكم بات، وعلى المحاكم أن تحيل ما يوجد لديها من دعاوی، وعلى محاكم الطعون أن تقضي بإلغاء الأحكام التي صدرت بالمخالفة لذلك، وتأمر بإحالتها إلى المحكمة المختصة لتقضي فيها من جديد.وبناء على ما تقدم فإن:1- دائرة جنح ومخالفات البلدية في تشكيلها الفردي لم يعد لها وجود، وحلت محلها في الاختصاص دائرة مستحدثة مشكلة من ثلاثة قضاة تنشأ بموافقة مجلس القضاء الأعلى هي المختصة دون غيرها بنظر الجرائم التي تقع بالمخالفة للوائح البلدية ولم يعد لأي دائرة غيرها اختصاص بنظرها.2- أن الأحكام التي أصدرتها الدائرة المشكلة من قاضي فرد، وإن كانت تخضع لطرق الطعن والإجراءات المقررة وقت صدورها إلا أن المحكمة المختصة بنظر تلك الطعون هي المحكمة التي حددها نص المادة 46 من القانون الجديد دون غيرها، وهي محكمة الاستئناف في دائرتها الجزائية.3- أن الأحكام الغيابية التي أصدرتها دائرة البلدية المشكلة من قاضي فرد يكون الطعن بالمعارضة فيها أمام محكمة البلدية الثلاثية بحسبانها المحكمة التي أضحت مختصة بنظر قضايا البلدية ابتداء، وبحسبان أن الحكم الغيابي يسقط بمجرد الطعن عليه بالمعارضة، وذلك عملا بالمادة 187 من قانون الإجراءات.4- أن الأحكام الصادرة من محكمة الاستئناف العليا يكون الطعن عليها أمام محكمة التمييز العليا نفاذا للأثر الفوري والمباشر للقواعد الاجرائية المتعلقة بتنظيم الاختصاص القضائي ووفقاً للقواعد العامة.5- أنه يتعين على كل محكمة (أول درجة أو ثاني درجة أو محكمة التمييز) تنظر دعوى أو طعنا متعلق بجريمة من الجرائم التي وقعت بالمخالفة للوائح التي تصدرها البلدية أو لم يفصل فيه بحكم بات، أن تتخلى عن الدعوى وتحكم بعدم الاختصاص والإحالة إلى المحكمة المختصة وفقا للقانون الجديد، إعمالا للأثر الفوري للقانون دون نظر إلى أي اعتبارات أو حجج احتراما لقاعدة قانونية إجرائية متعلقة بالنظام العام لا تقبل الجدل أو النقاش، لما في ذلك من تقويض لفكرة النظام العام ذاتها.6- جدير بالذكر أن نص المادة 46 من قانون البلدية أنشأ دائرة تختص دون غيرها بنظر الجرائم التي ترتكب بالمخالفة للوائح البلدية، سواء تلك التي صدرت أو التي ستصدر مستقبلا، وهو ما أكده نص المادة 51 / 2 من قانون البلدية، فنصت على أن «يستمر العمل باللوائح والقرارات السارية قبل نفاذ هذا القانون إلى أن تلغى أو تعدل أو تستبدل غيرها بها وفقا لأحكام هذا القانون وذلك خلال ستة أشهر من تاريخ إصدار اللائحة التنفيذية»، والقول بغير ذلك يفرغ نص المادة 46 من مضمونها ويجعل النص لغوا وعبثا، فضلا عن أن القانون 33 لسنة 2016 هو الذي يحدد وقت سريانه وليس نصوص لوائح البلدية التي أشار إليها عجز المادة 46 عرضا، والتي تحدد الجرائم والعقوبات فقط، إذ لو أراد المشرع لنص على ذلك في صدر المادة صراحة، وغاية ما يمكن تصوره أن النص الموضوعي المحدد للجريمة والعقاب في لوائح البلدية ينطبق على الجرائم التي ارتكبت قبل نفاذه.