وباء أوروبا
كان الطاعون أكثر الأوبئة المفجعة التي اجتاحت أوروبا كلها استثارة للمشاعر، كما يقول المؤرخون، إلا أن غيره من الأمراض قد ترك أثراً عميقاً في كيانها الاجتماعي، ومنها مرض «الجذام» الذي ظل موجوداً طوال العصور الوسطى، وكان المرض محصوراً في البداية في الشرق ثم زحف إلى سواحل البحر المتوسط ومنها إلى أوروبا.
"الجراثيم" بالعربية هي نفسها "الميكروبات" باللغة الأوروبية، وهي تتوزع إلى عائلات وفصائل وممالك! منها الفطريات (The fungi) والأولانيات (The Protists)، والعتائق (The Archaea)، والباكتيريا (The Bacteria)، وأخيراً الجراثيم الغامضة البالغة الخطورة والعصية على المطاردة والتصفية التي تشغلنا اليوم مع "كورونا"، أي الفيروسات (The Viruses).الكثير من تصوراتنا عن الجراثيم أو الميكروبات تتعلق بالبكتيريا، كما يرى المختصون، باعتبارها الجراثيم التي تستهدفها المنظفات المنزلية وباعتبارها مصدراً للأمراض، والبكتيريا بدورها كما هو معروف، مجموعة هائلة من الكائنات الحية المتباينة، وقد طورت إحدى مجموعاتها القدرة على البناء الضوئي كالنبات المنتج للأكسجين، وهي مجموعة تسمى بالعربية العالمية الأراقم (Cyanobateria)، وهناك فصيل آخر من البكتيريا يحمل اسماً عربيا طريفا وهو "البكتيريا سالبة الغرام"، أوGram- negative) (Bacteria! ولا يخفى أن "الغرام" هنا غرام وزن أي الجرام الذي يسمى الألف منه "كيلو غرام" ولا علاقة له بالحب والهيام وهذه، يقول كتاب "الأقرباء" من مجموعة عالم المعرفة الكويتية "يحيط بها غشاء مزدوج مما زاد بنحو كبير من قدرتها على النجاة من الاعتداءات الكيميائية". (جون أغراهام، فبراير 2020، ص 42).
ومن رواد علم الجراثيم الذي سبق عصره وسبق "باستور" الفرنسي نفسه "جيرولامو فراكاستور (Girolamo Fracastoro) من مدينة "فيرونا" الإيطالية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، إذ رسم الخطوط الأولى للنظرية العصرية عن جرثومة المرض فقال "إن العدوى تحصل من انتقال أجسام دقيقة لها قوة التوالد الذاتي". (تاريخ العالم، 5 ص، 552) لقد كان الطاعون أكثر الأوبئة المفجعة التي اجتاحت أوروبا كلها استثارة للمشاعر، كما يقول المؤرخون، إلا أن غيره من الأمراض قد ترك أثراً عميقاً في كيانها الاجتماعي، ومنها مرض "الجذام" الذي ظل موجوداً طوال العصور الوسطى، وكان المرض محصوراً في البداية في الشرق ثم زحف إلى سواحل البحر المتوسط ومنها إلى أوروبا.وكانت معاملة المجذومين في العصور الوسطى، يقول المؤرخ سنجر، "من أشد الوصفات في معاملة الإنسان لأخيه الإنسان". ويضيف أن المجذوم كان يُقصى عن المجتمع الإنساني ويعد ميتاً بحكم القانون، وذلك من خلال طقوس دينية خاصة، حتى أنه كان يحرم من دخول الكنيسة أو كان في أفضل الأحوال يسمح له بالجلوس في مقاعد معينة.كان لهذه الاحتياطات فائدتها فيما يبدو، فعندما كان الطاعون يجتاح أوروبا صدرت تعليمات صارمة في "ميلان" والبندقية" بين عام 1370 و1374، وقبل أن يصل إليها الوباء، كان من نتائج تنفيذها وقف تقدم المرض نحو هاتين المدينتين، وتجد إجراءات الحجر الصحي كذلك أو "الكرانتينا" أصولها في إيطاليا في جمهورية رجوسا Regusa القائمة على الشاطئ الشرقي للبحر الأدرياتيكي. فقد تم إنشاء مرفأ بعيد عن مدينة "البندقية" ينزل في مرفئها القادمون المشتبه فيهم، حيث يلزمون بتمضية ثلاثين يوماً في العراء وتحت الشمس وعزلة تامة وكانوا يسمون هذه المدة (ترانتينا)- أي ذات الثلاثين، ثم رُئي إطالة هذه المدة الى أربعين يوماً (كوارانتينا)- ذات الأربعين، ومنها أخذت الكلمة الحديثة (الكرانتينة). (تاريخ العالم، ج 5، ص 552) وفي مقال بعنوان "الموت الأسود" يرى د. محمد عبدالستار البدري أن الطاعون الكبير الذي ضرب أوروبا كان قد تطور أو تحور، فبات لدى وصوله إلى أوروبا أكثر خطورة وأشد فتكاً، يقول: "أغلب الظن أنه تم تشويهه مع الوقت بعدما انتقل عبر الحشرات الموجودة في وبر الجرذان، وكان منقسماً إلى أنواع مختلفة على رأسها الطاعون الرئوي (pneumonic)، والبوبوني في العقد اللمفاوية (Bubonic). وكان أخطر أنواع الطاعون النوع الأول الذي كانت العدوى تنتقل فيه عبر الهواء وبالتالي، الأكثر فتكا لأنه كان يؤثر مباشرة على الجهاز التنفسي، وما كان المصاب ليعيش أكثر من يومين أو ثلاثة على الأكثر، أما باقي الأنواع فكانت أعراضها تظهر في شكل تورمات متناثرة في الجسم سرعان ما تأخذ اللون الأسود أو الرمادي جراء النزيف الداخلي.وعبثا حاول الجراحون البدائيون في أوروبا التصدي للوباء بوسائل الطب التقليدي الذي لم يكن ليجدي مع هذا المرض اللعين، فلم تفلح محاولاتهم لشفط الدم الفاسد في الأورام، كما لم تفلح محاولاتهم لمواجهته بأنواع من المأكولات ولم يفلح أيضا السعي لتطهير الأورام عبر الأعشاب الطبيعية أو حتى الكيميائية، فحقيقة الأمر أن وضعية الطب المتخلفة في ذلك الوقت لم يكن أمامها أي فرصة لمواجهة هذا الوباء".من ناحية ثانية، اعتبر الكثيرون الوباء غضبا إلهياً لسوء السلوكيات وقارنوا بين أحوالهم وما ورد في "العهد القديم" أو التوراة عندما ابتلي فرعون وشعبه جراء ظلمهم لبني إسرائيل، في حين فسر بعض المسيحيين الوباء بأنه التمهيد الإلهي ليوم القيامة، وهو ما جعل الملايين يسعدون لنهاية العالم والعودة الثانية للسيد المسيح".(الشرق الأوسط 7/ 1/ 2017).كان الوباء مروعاً في سرعة انتشاره وفي عدد ضحاياه، حيث محا من الوجود كثيراً من القرى، ومن الملاحظات التي أجمع عليها معاصروه ظهور المرض المفاجئ. يقول المؤرخ سنجر: "كان الناس وهم يمشون في الطرقات وعليهم سمات الصحة التامة فإذا هم يصابون بالمرض ولا يرجعون إلى بيوتهم إلا بشق الأنفس، وتكفي نظرة واحدة يلقيها صريع الذعر تحت الإبط أو في خن الورك فإذا ورم صغير مشؤوم أسود يهمس بقصته المروعة، ولا يلبث الورم حتى يصل إلى حجم الجوزة أو يزيد فيصاب المريض بغثيان شديد ويضعف أمله في الحياة.وكان الشفاء من المرض نادرا والأرجح أن هذه الندرة قد بولغ فيها كثيراً، وكثيرا ما كان المصاب البائس لا يلقى أية عناية، بل يترك من غير غذاء، وكان الذعر الذي يكاد يكون شاملا أشنع مظاهر ذلك العهد، فقد كان الآباء يتخلون عن أبنائهم والأولاد عن آبائهم، وامتنع الكهنة عن تلاوة صلاة الغفران للمحتضرين، وهرب الأطباء إلى المناطق التي لم يظهر فيها المرض المرهوب. وتكررت هذه المآسي المفجعة في كل قطر".ومما يقوله المؤرخ في وصف أهوال "الموت الأسود" طرق انتقال المرض إلى الأصحاء: "كان للوباء قدرة على الفتك كبيرة جدا فلم تكن زيارة السليم للمرضى للسؤال أو الترفيه عنهم كافية لانقضاض الموت عليهم فحسب، بل إن لمس ملابس من مات بذلك الوباء أو أي شيء استعمل في خدمته كانت كافية فيما يبدو لنقل العدوى من المريض إلى السليم. ولم تكن صفة هذا الوباء المعدي تنحصر في قدرته على الانتقال من شخص إلى آخر سواء أكان رجلا أم أمرأة، بل إنها امتدت الى أبعد من ذلك، فالملابس أو أي شيء آخر من حاجيات إنسان مات بهذا المرض كانت إذا مسها أو نام عليها حيوان، أبعد ما يكون عن صفة الإنسان ونوعه، وسواء أكان كلبا أم قطا أم أي شيء آخر، فإن العدوى لا تنتقل إليه فحسب بل كان يموت منها موتا عاجلاً".وكما هي الحال في كل مكان وزمان، انتشرت الإشاعات والمبالغات الى أقصى حد، وينقل "سنجر" إحداها من كتاب الإيطالي "بوكاشيو" Bocaccio المعروف "ديكاميرون" وهو مجموعة قصص يرويها أشخاص هاربون من المناطق الإيطالية الموبوءة، كما سنرى في مقال قادم.
خليل علي حيدر
معاملة المجذومين في العصور الوسطى كانت من أشد الوصفات في معاملة الإنسان لأخيه الإنسان