تقوية الدفاع الأوروبي خطوة إيجابية لواشنطن
قد تشمل أجندة السياسة الخارجية التي يطرحها الرئيس الأميركي جو بايدن في المراحل الأولى من عهده إعادة ضبط علاقات الولايات المتحدة مع أوروبا، وقد تعيد واشنطن النظر بموقفها من احتمال أن تكتسب أوروبا ما يسمّيه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون "الاستقلالية الاستراتيجية".كان هذا المفهوم يخيف واشنطن في الماضي باعتباره تهديداً على نفوذها وهيمنتها، لا سيما إذا كانت فرنسا المدافعة الأولى عن الاستقلالية الأوروبية، لكن قد يكون هذا الموقف خاطئاً، ومن الأفضل أن تتعامل إدارة بايدن بجدية مع احتمال أن تسترجع أوروبا قوتها ويجب أن ترحّب بهذه الخطوة.تتعدد الأسباب التي تبرر الترحيب بتقوية الدفاع الأوروبي:
أولاً، لا تستطيع الولايات المتحدة أن تقف وحدها طوال الوقت، بل تحتاج إلى الحلفاء للحفاظ على أمنها وازدهارها في وجه التحديات العدائية التي تطرحها الصين وروسيا ومجموعة من الدول الأصغر حجماً، بما في ذلك إيران وكوريا الشمالية. ثانياً، قد تزيد قوة أوروبا وتتوسع استقلاليتها بغض النظر عن موقف الولايات المتحدة من هذا الموضوع. كانت فكرة تقوية أوروبا وزيادة هامش استقلاليتها الاستراتيجية مطروحة منذ أواخر الأربعينيات ومن المستبعد أن تتلاشى الآن، حتى أنها قد تكتسب الزخم المطلوب أخيراً. ساهمت خطة "بريكست" في إزالة عائق يحول دون ترسيخ قوة أوروبا، ويتعلق عائق آخر بالشرخ الذي يفصل بين المقاربات الفرنسية والألمانية في الموضوع الأمني، علماً أن هذا الشرخ يشتق من الاختلافات القائمة بين البلدين على مستوى الثقافة الاستراتيجية والمواقف من استعمال القوة، لكن هذه الفجوة بدأت تضيق الآن على الأرجح. سيبقى ماكرون في السلطة حتى عام 2022 وتبدو فرص إعادة انتخابه جيدة ومن المتوقع أن يهتم منافسوه أيضاً بتحقيق الاستقلالية الاستراتيجية، وفي المقابل سترحل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل من السلطة في نهاية عام 2021 ومن غير المتوقع أن يسير خَلَفها على خطاها أو يطبّق مقاربة أسلافها في ملف الأمن الأوروبي. يحتاج الأوروبيون اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى عقد اتفاق حول أمنهم الجماعي، وحتى لو رحّبوا بانتخاب بايدن باعتباره مؤشراً على تجدد التزام الإدارة الأميركية بحلف الناتو، إلا أن تجربتهم مع ترامب جعلت البعض يتردد في الاتكال على الضمانات الأمنية التي تتوقف على نزوات آلاف الناخبين في جورجيا وبنسلفانيا. تُعتبر المعارضة الأميركية للاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية نقيضاً للمطالب الأميركية القديمة بأن تتحمل أوروبا جزءاً أكبر من أعباء دفاعها الجماعي، ولطالما أصرّت الولايات المتحدة على أن تنفق أوروبا مبالغ إضافية وتزيد قوتها، لكن واشنطن لا تريد في المقابل أن تصبح قدرات أوروبا كبيرة لدرجة أن تتشجع على التحرك بشكلٍ أحادي الجانب. عملياً، ينفق الأوروبيون مبالغ كبرى على الدفاع أصلاً، لكن يضعف مستوى ذلك الإنفاق بسبب الإسراف وقلة الكفاءة في دول كثيرة تعمل على بناء قوى مختلفة لتحقيق غايات سياسية محددة ودعم صناعات دفاعية منفصلة، ولمعالجة هذا الوضع يقضي أفضل حل بإطلاق مبادرات جماعية أو رفع مستوى التنسيق على الأقل.أخيراً، لا يطرح حلم ماكرون أي تهديد على الولايات المتحدة، حتى أنه قد يُحسّن الظروف الراهنة، فالحلفاء اليوم يتصرفون بطريقة لا تعكس قوتهم الحقيقية، فقد يصبح هؤلاء الحلفاء، بسبب نقاط ضعفهم، أكثر ميلاً إلى إبرام صفقات منفصلة مع خصوم واشنطن الحقيقيين، وقد اتّضح هذا الاحتمال حين حاول ماكرون في السنة الماضية إقامة علاقة أكثر ودّية مع روسيا لكن محاولته فشلت في نهاية المطاف، فقد اتخذ هذه الخطوة لأنه افترض أن البيت الأبيض لا يهتم بدعم الأوروبيين ضد الروس، فماكرون لا يكنّ أي إعجاب لبوتين وما كان ليأخذ أي مجازفات كبرى عبر معارضته وحده، بيد أن أوروبا التي تزداد قوة قد تتمكن من أخذ مجازفات مماثلة.