نفّذ ترامب وعده عموماً، فخفّض أعداد الجنود في العراق وأفغانستان وخفّف التمويل المخصص لنشر الديمقراطية بمعدل مليار دولار تقريباً خلال ولايته الرئاسية.لكن إدارة ترامب تخلّت عن سياسة الامتناع عن بناء الأوطان مقابل بذل جهودٍ تحمل مجازفات كبرى في سورية. حاولت الولايات المتحدة أن تستعمل القوة العسكرية والضغوط المالية لإجبار الرئيس السوري بشار الأسد على تطبيق إصلاحات دستورية كبرى وإنشاء منطقة كردية ذاتية الحكم في شمال شرق البلاد. وتحت إشراف الولايات المتحدة، تحولت تلك المنطقة إلى دويلة لها جيشها الخاص (يُعرَف باسم "قوات سورية الديمقراطية") ونظامها البيروقراطي الراسخ وتطغى عليها "وحدات حماية الشعب" الكردية السورية وجناحها السياسي المعروف باسم "حزب الاتحاد الديمقراطي".
بعد مرور ست سنوات وصرف حوالي 2.6 مليار دولار، أصبحت هذه الدويلة تحت جناح الولايات المتحدة، فنشأت في ظل الحماية العسكرية الأميركية وهي محصّنة ضد جيرانها العدائيين. تعجز هذه المنطقة المستقلة عن إعالة نفسها، لذا ستتابع اتكالها على الموارد الأميركية في المستقبل المنظور. لكن لا تحتاج الولايات المتحدة إلى هذا النوع من الالتزامات المفتوحة. لم تكن سورية يوماً جزءاً من أهم مسائل الأمن القومي الأميركي ودائماً اقتصرت الأهداف الأميركية هناك على منع الصراع من تهديد مصالح واشنطن الأكثر أهمية في أماكن أخرى. لكن لا تنجح السياسة الأميركية الراهنة في تحقيق هذا الهدف المحوري. حتى أنها لم تفرض أي إصلاح سياسي في دمشق أو تُجدّد الاستقرار في البلد أو تتعامل مع بقايا "داعش" هناك. لهذا السبب، من الأفضل أن يغيّر الرئيس جو بايدن السياسة المعتمدة عبر سحب مئات الجنود الأميركيين المنتشرين راهناً في سورية والاتكال على روسيا وتركيا لاحتواء "داعش".
طريق مسدود
ظاهرياً، كانت الاستراتيجية الأميركية في شمال شرق سورية مُصمّمة لتدمير بقايا "داعش" وحرمانه من ملجأ آمن يسمح له بإطلاق الاعتداءات. نجحت الحملة العسكرية الدولية التي امتدت على سنوات في تدمير هذا التنظيم الإرهابي عموماً، لكن ينفذ أعضاؤه المتبقون حتى الآن اعتداءات خفيفة ومتقطعة في سورية والعراق. يُفترض أن يكون الدعم الأميركي لـ"قوات سورية الديمقراطية" وفرعه الكردي "وحدات حماية الشعب" كفيلاً بمساعدة تلك الجماعات على احتواء "داعش" عبر تلقي مساعدات خارجية بسيطة ومن دون الحاجة إلى انتشار أميركي كامل.قد تبدو هذه الاستراتيجية مقنعة من الناحية السياسية لكنها شائبة جداً. أجّج حلفاء واشنطن من أكراد سورية الاضطرابات الإقليمية القديمة بين العرب والأكراد. في المجتمعات العربية تحديداً، يسود إحباط عام بسبب هيمنة الأكراد سياسياً، بدعمٍ من الولايات المتحدة، وسيطرتهم على حقول النفط المحلية. كذلك، احتجّ السكان العرب على الفساد الإداري المزعوم في "قوات سورية الديمقراطية" وعمليات مكافحة الإرهاب المكثفة وسياسات التجنيد. نفذت القوات الكردية من جهتها اعتداءات بسيارات مفخخة ضد بلدات عربية يسيطر عليها الجيش التركي. وسط هذه الظروف المشحونة بالاضطرابات العرقية والنزاعات القبلية، يستطيع "داعش" أن ينشط بموافقة ضمنية من السكان المحليين ويُجنّد عناصره من الجماعات المستاءة هناك. ستواجه الولايات المتحدة هذه المشكلة دوماً إذا أصرّت سياساتها على تأييد الدويلة التي يسيطر عليها الأكراد في شرق سورية.تحمل الاستراتيجية الأميركية عيباً أساسياً آخر: لا ينحصر وجود "داعش" في المناطق الخاضعة لسيطرة الولايات المتحدة و"قوات سورية الديمقراطية"، بل ينشط التنظيم الإرهابي أيضاً في منطقة يسيطر عليها بدرجة معينة النظام السوري وحلفاؤه، بما في ذلك روسيا وإيران، وتمتد هذه المنطقة على 200 ميل وتقع في غرب نهر الفرات. إذا كان الهدف الأساسي يتعلق بمنع "داعش" من إعادة بناء نفسه أو استعمال سورية كمنصة لإطلاق الاعتداءات نحو أماكن أخرى، فلا يمكن حلّ المشكلة عبر حصر الانتشار الأميركي في الجزء الشرقي من البلد. ولن تُعالَج المشكلة أيضاً من خلال فرض العقوبات على نظام الأسد، مهما كان مقيتاً، لأن هذه الخطوة تُضعِف موارد قوات النظام السوري في معركتها ضد التنظيم المتطرف بكل بساطة.على صعيد آخر، تفتقر المقاربة الأميركية الراهنة إلى هدف نهائي قابل للتنفيذ. من دون تغطية عسكرية ودبلوماسية أميركية، قد تواجه "وحدات حماية الشعب" و"قوات سوريا الديمقراطية" حرباً على جبهتَين أو ثلاث جبهات ضد تركيا والنظام السوري معاً، ما يعني إبعاد المقاتلين عن معركتهم ضد "داعش". لتجنب هذه النتيجة تزامناً مع متابعة دعم القوات الكردية، ستضطر الولايات المتحدة للبقاء في شرق سورية إلى أجل غير مسمّى. وإذا قررت روسيا أو تركيا أو إيران أو النظام السوري تكثيف الضغوط العسكرية على القوات الأميركية أو الدويلة الكردية الناشئة، فستضطر واشنطن لتخصيص موارد غير مسبوقة لمعالجة هذه المشكلة. هذا ما حصل حين بدأت الوحدات العسكرية الروسية تضايق الدوريات الأميركية في صيف عام 2020، فأرسلت القيادة الأميركية المركزية وحدات مدرّعة جديدة لردعها. من المتوقع أن تزداد هذه الدينامية سوءاً خلال السنوات المقبلة.الاتكال على روسيا وتركيا
نظراً إلى هذه الشوائب كلها في سياسة ترامب تجاه سورية، تحتاج الإدارة الأميركية الجديدة إلى مقاربة مختلفة لاحتواء "داعش" من دون إشراك الجيش الأميركي في حرب لامتناهية أخرى. وبدل الحفاظ على الاستراتيجية الأميركية الراهنة، يُفترض أن يزيد فريق بايدن اتكاله على روسيا وتركيا. قد تبدو هذه الفكرة مزعجة، لكن يمكن تحسين النتائج المُحققة عبر الاعتراف بمصالح هذين البلدين في سورية.روسيا ليست شريكة مثالية بأي شكل، لكنّ دعمها للأسد يجعلها القوة المناسبة لخوض المعركة ضد "داعش". تريد موسكو أن تضمن صمود النظام السوري ومن المعروف أن عودة "داعش" (بتمويل من حقول النفط السورية التي استولت عليها "قوات سورية الديمقراطية") ستفرض تهديداً خطيراً على الأسد. للاستفادة من هذه القواسم المشتركة النادرة، يجب أن تعقد إدارة بايدن اتفاقاً يُكلّف موسكو بمهام التصدي لتنظيم "داعش" على جانبَي الفرات. تتطلب هذه العملية توسيع البصمة العسكرية الروسية في شرق سورية، وستضطر الولايات المتحدة من جهتها للتفاوض حول سحب قواتها تدريجاً ووضع جدول زمني لنقل السيطرة من الولايات المتحدة إلى روسيا.لكنّ نقل مسؤولية مكافحة "داعش" إلى طرف آخر في شرق سورية لن يلغي الحاجة إلى منع التنظيم الإرهابي من استعمال سورية كقاعدة لشن اعتداءات ضد حلفاء واشنطن أو مصالحها. لنسف ذلك التهديد، يجب أن تقنع الولايات المتحدة تركيا بتأمين حدودها الجنوبية. على غرار موسكو، تملك أنقرة دوافع واضحة للتعاون، فقد شنّ "داعش" اعتداءات إرهابية داخل تركيا أيضاً. لكن يصعب إغلاق الحدود الممتدة على 600 ميل بالكامل، لذا ستضطر واشنطن لمنح تركيا دعماً تكنولوجياً واستخبارياً لمراقبة تحركات الإرهابيين. تتطلب هذه العملية تعاوناً مكثفاً لكن كان يصعب التعامل مع الأتراك قبل أن تدعم الولايات المتحدة "وحدات حماية الشعب" التي تعتبرها تركيا منظمة إرهابية. مع ذلك، سيصبح التعاون أكثر سهولة حين تتوقف الولايات المتحدة عن مساعدة القوات الكردية مباشرةً. تريد تركيا في المقام الأول أن تمنع هذه الجماعات من إنشاء كيان مستقل في سورية.نحو مقاربة أكثر توازناً
يجب ألا يفاجئ بايدن الشركاء الأكراد بهذه الاستراتيجية الجديدة، بل يُفترض أن تبلغهم إدارته منذ مرحلة مبكرة بالخطوات الأميركية المرتقبة. كانت "قوات سورية الديمقراطية" و"وحدات حماية الشعب" من أهم الشركاء في المعركة ضد "داعش"، ومن مصلحة الروس أن يتابعوا التعاون معهما بموجب اتفاق جديد. تتمتع موسكو بخبرة واسعة في هذا المجال، فقد أنشأ الروس "الفيلق الخامس" من المقاتلين الموالين لدمشق ودعموه بالمعدات ويتابعون الإشراف على عملياته راهناً، ويتولى هذا الفيلق تنفيذ المهام في أنحاء البلد. بالتنسيق مع النظام السوري، تستطيع موسكو أن تنشئ "فيلقاً سادساً" جديداً يتألف من عناصر "قوات سورية الديمقراطية" لكن بقيادة روسية.سيضطر "حزب الاتحاد الديمقراطي" و"وحدات حماية الشعب" للتفاوض مع دمشق حول المكانة السياسية للمنطقة التي يسيطر عليها كل طرف. قد تسمح علاقة "حزب الاتحاد الديمقراطي" القديمة مع النظام السوري بتسهيل هذه العملية. في عام 2012، عقد هذا الحزب اتفاقاً مع الأسد للسيطرة على المدن الشمالية الشرقية تزامناً مع انسحاب الجيش السوري، ولم تتحمل الجماعات التابعة له حملات القصف كتلك التي استهدفت حمص وحلب وضواحي دمشق. اليوم، يُفترض أن يستفيد "حزب الاتحاد الديمقراطي" و"وحدات حماية الشعب" من هذا الإرث لضمان مواطنة متساوية وحقوق ملكية منصفة للموالين لهما، علماً أن عدداً كبيراً من أكراد سورية حُرِم من هذه الضمانات فترة طويلة. قد لا يكون هذا الاتفاق مرادفاً لاستقلالية كاملة في سورية الفدرالية، لكنه يسمح بتحسين الوضع مقارنةً بما كان عليه قبل الحرب.من المتوقع أن يعترض عدد كبير من السياسيين والمحللين الأميركيين على هذه الخطوة على اعتبار أن واشنطن تدين بالكثير لـ"وحدات حماية الشعب" و"قوات سورية الديمقراطية". لكن رغم المساعدة القيّمة التي قدّمها الأكراد في المعركة ضد "داعش"، لا تدين الولايات المتحدة لهذه الجماعات بمظلة عسكرية لامتناهية على حساب أموال دافعي الضرائب. لا تقضي المصلحة الأميركية الوطنية بتحديد شكل الحُكم في شرق سورية بل باحتواء التهديدات الإرهابية.قدرات أميركية محدودة في سورية
في نهاية المطاف، تحتاج إدارة بايدن إلى التعامل بواقعية مع قدرتها على اكتساب تنازلات سياسية في سورية. دائماً سعى المسؤولون الأميركيون إلى إجبار نظام الأسد على تطبيق الإصلاحات، لكنهم لم ينجحوا في مساعيهم. وحاولت إدارة ترامب من جهتها أن تستعمل العقوبات المالية وتسيطر على حقول النفط السورية لإجبار دمشق على تغيير سلوكها، لكن بالكاد تأثّر الأسد. تبرع دمشق في المناورات خلال أي مفاوضات وقد وصلت محادثات الأمم المتحدة التي عوّلت عليها واشنطن في جنيف إلى طريق مسدود. بنظر الأسد وجماعته، يرتكز هذا الصراع على لعبة "لا غالب ولا مغلوب" حيث تؤدي المطالب بالإصلاح أو الاستقلالية إلى زعزعة الاستقرار أو تحدّي سيطرتهم أو ظهور دعوات غير مرحّب فيها بمحاسبة المرتكبين. لهذا السبب، يتابع النظام معركته بناءً على فرضية مؤلمة مفادها أن الإصلاح سيُقصّر مدة صموده. لن تتغير هذه الحسابات نتيجة سيطرة الولايات المتحدة أو "قوات سورية الديمقراطية" على حقول نفط صغيرة في الشمال الشرقي.يزعم محللون آخرون أن الانسحاب الأميركي سيمنح إيران وروسية سيطرة كاملة في سورية. لكن تتجاهل هذه الفكرة الروابط السياسية والعسكرية القديمة التي تجمع بين هذين البلدين ودمشق: من المستبعد أن تضعف هذه العلاقات بسبب الضغوط الأميركية. حافظت روسيا وسورية على علاقة ثنائية وثيقة منذ الحرب الباردة وينشط المستشارون الروس في البلد منذ مرحلة تسبق الصراع الذي اندلع في عام 2011. يُعتبر الوجود الإيراني قديماً بالقدر نفسه: حين كنتُ السفير الأميركي في سورية منذ عشر سنوات، تقاسم الدبلوماسيون الأميركيون مبنىً سكنياً مع عناصر من الحرس الثوري الإيراني. وتنتشر منشآت عسكرية خاصة بالحرس الثوري في سورية منذ عشرين سنة تقريباً. لن تتغير هذه العلاقات الثنائية إذاً عبر إطلاق دوريات أميركية صغيرة ومتقطعة في شرق سورية ولن تعوق هذه الجهود شحنات الصواريخ الإيرانية التي تصل إلى سورية، بل إن القوات الجوية الإسرائيلية هي التي تتسلم هذه المهمة اليوم.يستطيع بايدن طبعاً أن يتمسك باستراتيجية إدارة ترامب. لكن يعني ذلك إهدار مليارات الدولارات تزامناً مع تأجيج الاضطرابات الطائفية والفشل في احتواء "داعش". يُفترض أن تتراجع التكاليف التي تتكبدها الولايات المتحدة عبر الحد من أهدافها في سورية، ويجب أن تصرف المبالغ التي تريد إنفاقها لحل مشكلة اللاجئين المتفاقمة. ومن الأفضل أن تسمح واشنطن لروسيا وتركيا بتحقيق مصالحهما الوطنية عبر تحمّل أعباء التصدي لتنظيم "داعش". في النهاية، تشكّل هذه الصفقات ركيزة لأي جهود دبلوماسية. بعبارة أخرى، ثمة حاجة دائمة إلى معالجة المشاكل، حتى لو كان الشركاء بغيضين، لتحقيق الأهداف المحدودة والمشتركة.* روبرت س. فورد