في أول حدث من نوعه في عام 2021 وسيطرح تحدياً خارجياً لم يكن بالحسبان على السياسة الخارجية للرئيس الأميركي جو بايدن، نفّذ الجيش البورمي، فجر أمس، انقلاباً هو الثالث من نوعه منذ استقلال ميانمار (المعروفة الآن بميانمار)، لينهي سنوات من تقاسم للسلطة بالغ الحساسية بين الحكومة المدنية برئاسة «مستشارة الدولة» أونغ سان سوتشي، المعتقلة السياسية السابقة ورمز الكفاح الطويل لإسقاط الدكتاتورية، والعسكريين الذين يتمتعون بنفوذ كبير جداً.
تعيينات واعتقالات
وأعلن الجيش، الذي برّر خطوته بتزوير انتخابات العام الماضي، حال الطوارئ مدة سنة، كما عين جنرالات في المناصب الرئيسية، واعتقل سوتشي وعددا كبير من المسؤولين في حكومتها، بينهم رئيس الجمهورية وين ميينت، لتعود البلاد مجدداً إلى الحكم العسكري المباشر، بعدما اختبرت الديمقراطية لنحو عقد.وأصبحت السلطات «التشريعية والإدارية والقضائية» بيد قائد الجيش مين أونغ هلينغ، الذي يُعدّ الشخصيّة الأكثر نفوذاً، في حين أصبح الجنرال ميينت سوي رئيساً مؤقتاً للبلاد.انتخابات بعد عام
وفي بيان، عبر القناة التلفزيونيّة العسكريّة، أفاد الجيش بأنّ خطوته ضروريّة للمحافظة على «استقرار» البلاد، وتعهّد بتنظيم انتخابات «حرة وعادلة» فور رفع حال الطوارئ.وفي بيان ثان تُلي بعد اجتماع للمجلس العسكري الحاكم، كرر الجيش تعهده بإجراء انتخابات حرة ونزيهة وتسليم السلطة للفائز.وأفاد البيان بأن الجنرال مين تعهد كذلك بممارسة «نظام الديمقراطية التعددية الحقيقي بشكل عادل».تزوير الانتخابات
وفي حين سرت إشاعات في الأيام الماضية عن احتمال حدوث انقلاب، تحرّك الجيش قبل ساعات من انعقاد مجلس النوّاب المنبثق عن الانتخابات التشريعيّة، التي جرت في 8 نوفمبر الماضي، أولى جلساته.ويتّهم الجيش اللجنة الانتخابيّة بعدم معالجة «المخالفات الهائلة» التي تخلّلت اقتراع 8 نوفمبر، وفاز به حزب سوتشي «الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية» بـ 83 في المئة من المقاعد.ويتحدّث الجيش عن وجود 10 ملايين حالة تزوير في انتخابات نوفمبر الماضي، ويريد التحقيق في الأمر، وقد طالب مفوضية الانتخابات بكشف لوائح التصويت للتحقق منها.وكان الجيش سيطر على مبنى بلديّة رانغون، عاصمة البلاد الاقتصادية، وقطع عسكريون الطريق المؤدي إلى المطار الدولي. وجالت عدة شاحنات في شوارع رانغون، لمؤيدين للجيش كانوا يلوحون بالرايات ويرددون أناشيد وطنية.وتعطّلت إلى حدّ كبير، أمس، إمكانيّة الاتّصال بشبكة الإنترنت، كما أغلقت كل المصارف في البلاد حتى إشعار آخر، على ما أفاد اتحاد المصارف.وسارع السكان إلى محلات البقالة في أحيائهم لتخزين الأرز والزيت والنودلز الفورية.لكن باستثناء الشرطة، لم يكن لعناصر الأمن تواجد كبير في المدن، ولم ترق أي دماء.الجنرال مين... المعاقب بسبب اضطهاد مسلمي الروهينغا
تسلم مين قيادة القوات المسلحة عام 2011، ثم عمد إلى تمديد ولايته 5 سنوات إضافية حتى فبراير 2016.وعلى مدى سنوات من تسلمه قيادة الجيش، بسط الرجل نفوذه في البلاد، حتى اقتنص قوة ورتبة توازي منصب نائب رئيس البلاد.والجنرال مين أونغ هلينغ، إلى جانب 3 قادة آخرين في الجيش، مدرج على قائمة العقوبات الأميركية منذ ديسمبر 2019، لـ«تورطهم في انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان» ضد أقلية الروهينغا المسلمة في البلاد.ولا تزال عدة دعاوى قضائياً ضد العسكريين قائمة أمام محاكم دولية، بما في ذلك محكمة العدل الدولية.وفي 2019 أيضاً، حضّ محققون تابعون للأمم المتحدة زعماء العالم على فرض عقوبات مالية موجهة تستهدف الشركات المتعاملة مع جيش ميانمار.وأدت حملة شنها الجيش عام 2017 إلى هروب أكثر من 730 ألفاً من مسلمي الروهينغا من ولاية راخين الغربية في ميانمار إلى بنغلادش. وقال محققون أمميون إن «عملية ميانمار» تضمّنت جرائم قتل واغتصاب جماعي وإشعال حرائق متعمدة على نطاق واسع وتم تنفيذها بنية «الإبادة الجماعية».ونفت حكومة ميانمار ارتكاب تلك الفظائع، مشيرة إلى أن حملتها العسكرية في شمال ولاية راخين كانت رداً على هجمات شنها مسلحون من الروهينغا.
سوتشي تدعو للرد
في المقابل، تركت سوتشي رسالة إلى الشعب نشرها رئيس حزبها على مواقع التواصل، تحضّ فيها على «المقاومة وعدم قبول الانقلاب».وشرح رئيس حزبها وين هتين، في منشور على «فيسبوك»، أن الزعيمة البورمية تركت هذه الرسالة للشعب، بعد أن كانت الاشاعات حول الانقلاب تنتشر في البلاد في الأيام الأخيرة. وكتبت سوتشي في رسالتها أن الجيش يحاول «إغراق البلاد من جديد في دكتاتورية عسكرية، متجاهلاً وباء كوفيد 19»، مطالبةً الشعب «بالرد بصوت واحد».إدانات دولية
وأثار انقلاب ميانمار سلسلة تنديدات دولية. وقالت الناطقة باسم البيت الأبيض جين بساكي إنّ «الولايات المتحدة تُعارض أيّ محاولة لتغيير نتائج الانتخابات الأخيرة أو عرقلة التحوّل الديمقراطي في ميانمار، وستتخذ إجراءات إذا لم يتم التراجع عن هذه الخطوات والاعتقالات».ودعا وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن من جهته الجيش البورمي إلى «الإفراج عن كافة المسؤولين في الحكومة، وكذلك القادة في المجتمع المدني، وإلى احترام إرادة شعب ميانمار التي عبّر عنها خلال انتخابات 8 نوفمبر الديمقراطية».وندّدت كندا وبريطانيا وأستراليا والدول الأوروبية وكذلك دول آسيوية «بشدة» بالانقلاب، مطالبين الجيش بالإفراج عن الموقوفين واحترام نتيجة الانتخابات واستعادة العملية الديمقراطية.وفي بكين، أعلنت وزارة الخارجية، أن «الصين جارة صديقة لميانمار، وتأمل أن تحلّ الأطراف المختلفة خلافاتها ضمن الإطار الدستوري والقانوني».وبينما أملت وزارة الخارجية في بنغلادش، الدولة التي تستقبل مئات آلاف لاجئي الروهينغا، «أن يتمّ الحفاظ على الآلية الديمقراطية والأحكام الدستورية»، قالت وزارة الخارجية الهندية «لطالما قدّمت الهند دعماً مستمراً لعملية الانتقال الديمقراطي في ميانمار. نعتبر أنه ينبغي احترام دولة القانون والآلية الديمقراطية».ودانت وزارة الخارجية التركية التي تعرّضت بنفسها لمحاولة انقلاب عام 2016، «بشدة استعادة الجيش البورمي السيطرة على الحكم»، وأعربت عن أملها في ألا يفاقم هذا التطوّر «وضع الروهينغا المسلمين الذين يعيشون بظلّ ظروف صعبة في ميانمار».شأن داخلي
وانقسمت مواقف دول رابطة جنوب شرق آسيا (آسيان) من الانقلاب، فبينما عبرت ماليزيا واندونيسيا وسنغافورة عن «قلقهم البالغ»، أعلن الناطق باسم الرئيس الفلبيني هاري روك، إن الفلبين تعطي الأولوية لسلامة مواطنيها في ميانمار وترى الأحداث في تلك البلاد شأنا داخليا «لن نتدخل فيه».كذلك في كمبوديا، قال رئيس الوزراء هون سين: «لن تعلق كمبوديا على الشؤون الداخلية لأي دولة، سواء في إطار دول آسيان أو أي دولة أخرى».مجلس الأمن
وقد يعقد مجلس الأمن الدولي جلسة كانت مقررة سابقاً عن ميانمار، بشكل طارئ على أن يقدّم موعدها إلى مطلع الأسبوع نظراً للتطورات الأخيرة، كما قال لوكالة فرانس برس دبلوماسي فضل عدم الكشف عن هويته.تاريخ مضطرب
وخرجت ميانمار منذ 10 سنوات فقط من نظام عسكري سيطر على السلطة مدة نصف قرن. وآخر انقلابين شهدتهما البلاد منذ استقلالها يعودان للعامين 1962 و1988.ويرى الجيش الذي يقف وراء صياغة دستور 2008 والديمقراطية الناشئة أنه حامي الوحدة الوطنية والدستور، وقد احتفظ لنفسه بدور دائم في النظام السياسي.وللجيش حصة نسبتها 25 في المئة من مقاعد البرلمان لا تخضع للانتخابات، كما أنه يسيطر على وزارات الدفاع والداخلية والحدود بما يضمن له دورا مهما في الحياة السياسية.الثغرة التي أوصلت سوتشي إلى المستشارية
وصلت سو تي (75 عاماً) الحاصلة على جائزة نوبل للسلام، إلى السلطة بتحقيق فوز ساحق في انتخابات 2015 بعد أن قضت سنوات طويلة رهن الإقامة الجبرية في كفاحها من أجل الديمقراطية الذي حوّلها إلى رمز دولي.ولحق الضرر بمكانتها الدولية بعد فرار مئات آلاف الروهينغا، لكنها لا تزال تحظى بشعبية واسعة في الداخل.ويتعرّض حزب أونغ سان سو تشي لانتقادات شديدة دولياً على خلفية إدارته لأزمة الروهينغا. لكنها تتمتع بشعبية بين السكان إذ حصلت على أغلبية ساحقة في انتخابات نوفمبر.وكانت تلك ثاني انتخابات عامة تشهدها البلاد منذ استبعاد الطبقة العسكرية عن الحكم.ومنذ انتصار حزبها في 2015، تشغل أون سان سو تشي منصب «مستشارة الدولة» الذي خُلق خصوصاً لها كي تتمكن من ترؤس الحكومة بحكم الأمر الواقع، وكانت مرغمة على مشاطرة السلطة مع الجيش الذي يسيطر على 3 وزارات أساسية هي الداخلية والدفاع والحدود.وأكد المحلل السياسي سو ميينت أونغ، أن الجيش قام بكل ما بوسعه لمنع وصول «سيدة رانغون» إلى الحكم، إلا أنه لم يتوقع هذه الثغرة، مضيفاً أن العسكريين كانوا غير راضين على الإطلاق بعد أن «فقدوا السيطرة بشكل كبير على الآلية السياسية».