أصحاء يهربون من الوباء
هز طاعون "الموت الأسود" كيان أوروبا في العصور الوسطى كما يفعل كورونا اليوم ومنذ عام تقريبا مع فارق أساسي وهو أن الشفاء من المرض كان نادراً، وإن كان للوفاة يومذاك أسباب غير المرض في بعض الأحيان، فكثيرا ما كان المصاب البائس لا يلقى أية عناية، بل يترك من غير غذاء، إذ سادت الرغبة في النجاة بالنفس الموقف، وكان الذعر الذي يكاد يكون شاملا أشنع مظاهر ذلك العهد، ويقول كتاب "تاريخ العالم" المشار إليه سابقا إن الآباء كانوا يتخلون عن أبنائهم والأولاد يتركون آباءهم.وامتنع الكهنة عن تلاوة صلاة الغفران للمحتضرين وهرب الأطباء إلى المناطق التي لم يظهر فيها المرض المرهوب، وتكررت هذه المآسي المفجعة شأنها اليوم في كل قطر.رصد الأديب الإيطالي الكبير "جيوفاني بوكاشيو" (1313-1375) جوانب من حياة الناس في ذلك العصر ضمن مجموعته القصصية المشهورة "ديكاميرون" Decameron وهي من المؤلفات العالمية، إذ يعتبر الكاتب كما يصفه بعض النقاد "من أبرع الكتاب في سرد القصة وتحليلها". (الموسوعة العربية الميسرة 2001).
وتضيف الموسوعة أن ديكاميرون مجموعة من مئة قصة كان يرويها جماعة من الذين فروا من "فلورنسا" الموبوءة بالمرض وقد أقاموا في بيت صغير فأخذوا في التسرية عن أنفسهم بأن يقص كل منهم قصة طريفة، وتمتاز هذه القصص بروح من الفكاهة وتصور في مجموعها الحياة والأخلاق في ذلك العصر.كان هؤلاء الفلورنسيون قد رحلوا إلى بيت في الريف هروبا من (الموت الأسود) ليباعدوا بين عقولهم وبين الأهوال التي أحاطت بهم، غير أن الوباء كانت له قدرة على الفتك كبيرة جدا، مما ساعد في خلط الوقائع بالمبالغات والأخبار الصحيحة بالإشاعات، فيقال إنه لم تكن زيارة السليم للمرضى للسؤال أو الترفيه عنهم كافية لانقضاض الموت عليهم فحسب "بل إن لمس ملابس من مات بذلك الوباء أو أي شيء استعمل في خدمته كانت كافية فيما يبدو لنقل العدوى من المريض إلى السليم، ولم تكن صفة هذا الوباء المعدي تنحصر في قدرته على الانتقال من شخص إلى آخر سواء أكان رجلا أم امرأة، بل امتدت إلى أبعد من ذلك، فالملابس أو أي شيء آخر من حاجيات إنسان مات بهذا المرض كانت إذا مسها أو نام عليها حيوان أبعد ما يكون عن صفة الإنسان ونوعه، وسواء أكان كلبا أو قطا أم أي شيء آخر فإن العدوى لا تنتقل إليه فحسب، بل كان يموت منها موتا عاجلا".ويضيف الراوي كما ينقل عن المؤرخ "سنجر" فيقول: "لقد رأت عيناي ضمن عيون كثيرة أخرى ما أكسبني خبرة بذلك الوباء، رأيت قطعا من قماش رخيص كانت قد تمزقت من ثوب على جثة إنسان تعس مات بالمرض، ومر خنزيران ببقايا الثوب ومرغا فنطيستيهما، فأخذا من فورهما يدوران على نفسيهما مرتين أو ثلاث مرات ثم يسقطان ميتين". (الفنطيسة: خطم الخنزير)، ولا يقبل المؤرخ هذا التهويل على علاته. ويعقب سنجر مبينا خطر الإشاعات في بث الرعب بالنفوس فيقول معقبا ومشككا: "وليس ما ورد في هذه الأقصوصة عن الخنازير صحيحا، ولا هو مما يتفق مع ما نعرفه عن سير عدوى المرض بطبيعته، ولكن مجرد تداول هذه الإشاعة لم يكن أقل فتكا من الطاعون نفسه، وفي ذلك يقول بوكاشيو إن هذه الحادثة وما شابهها خلقت مخاوف وتخيلات فيمن سمعها مما جنح بهم جميعا الى تصرف أبعد ما يكون عن الخير والإنسانية، ألا وهو الفرار من المرضى وعدم ملامسة أي شيء لهم، وقد ظنوا أنهم بهذا يضمنون سلامتهم". (تاريخ العالم، ج5، ص545)كان المصابون بالطاعون يموتون مرعوبين بأعداد هائلة في ظروف مرضية مأساوية في حين حاولت الشرائح المقتدرة من المجتمع عزل نفسها قدر المستطاع عن الواقع الموبوء بالابتعاد عما حولها والانهماك فيما تصل إليها من الملذات المتاحة، ويرسم بوكاشيو في كتابه (ديكاميرون) صورة للظروف التي تحدث فيها الأشخاص وما رووا من تجارب بين اعتدال في السلوك وتحلل وانحراف.فمنهم من قالوا فيما بينهم وبين أنفسهم إن حياة التعقل مع البعد عن الإفراط ضمان كاف لتفادي الحوادث الضارة، فاختلطوا فيما بينهم اجتماعيا وعاشوا في عزلة عن سائر الناس، واعتصموا في بيوت خاصة، بحيث لا يكون بقربهم مصاب، وهناك تلمسوا مزيدا من السلامة بأن أخذوا يأكلون لحوما غضة ويشربون أنبذة فاخرة ويتجنبون الكماليات كما امتنع الواحد منهم من مشافهة الآخر وامتنعوا كذلك عن أن يطلوا من النوافذ حتى لا يسمعوا أنات المحتضرين أو يروا جثث المتوفين في رحيلهم الأخير، بل عاشوا ومعهم آلاتهم الموسيقية في فيض من جميع المسرات الممكنة.واستصوب بعضهم طريقا آخر واثقين من أنه لا يوجد علاج أكثر تأثيرا في هذا المرض الخطير من أن يدمنوا الخمر، وينشدوا المرح فيما بينهم، وأن يغنوا بلا انقطاع، وأن يسيروا في كل مكان، وأن يرضوا شهواتهم للأكل بكل ما يتوقون له، وأن يضحكوا ويسخروا من كل حادث محزن، وهم يخرجون من حانة ليدخلوا أخرى، ويعيشون في سهولة تامة بلا قانون أو ضابط، كما تخلى كل واحد منهم عن جميع ما يملك كأنه لن يعيش بعد اليوم في هذه الدنيا، فأصبحت معظم البيوت من جراء ذلك مشاعا واحداً". (ص546).وفقدت القوانين والضوابط القانونية والاجتماعية سلطانها على الناس، إذ "تحطمت سلطة القوانين الالهية والبشرية"، يقول المؤرخ سنجر بسبب الافتقار لأولي الأمر فيها، "فقد ماتوا كلهم أو رقدوا مع غيرهم من المرضى أو عاشوا في عزلة وفي شدة الحاجة للخدم والأتباع، فلا يستطيعون القيام بمهام وظائفهم، وأصبح من المشروع أن يفعل كل إنسان ما يشتهي".واختارت فئة ثالثة دربا آخر في التعامل مع انتشار الوباء، فعمدت إلى الفرار من كل شيء، الناس والمدن وسائر العمران "فغادر المدينة كثيرون جدا من الرجال والنساء، هجروا بيوتهم الخاصة وآباءهم وأقاربهم وأصحابهم ومتاعهم هاربين إلى حيث نزلوا بيوت غيرهم في مدن أخرى، كأنما الله عندما يضرب الآثمين بالطاعون قصاصاً لخطاياهم لا ينزل هذا العقاب إلا على الذين تضمهم أسوار المدينة" (ص546).وامتدت مظاهر تأثير الوباء ومحاولة الفرار منه إلى مجالات أخرى كما سنرى.