تجديد العهد والثقة بنظامنا الدستوري
كانت مقدمات الانتقال إلى العهد الدستوري منذ عام 1959 وحتى تمام وضعه، تكشف عن نضج آبائنا المؤسسين، وعمق فهمهم، ومتانة ما قطعوه من عهود بينهم حكاماً ومحكومين.وقد انعكس ذلك كله على نمط التوافقات ومسارات التراضي في وضع الدستور، وهو ما أثمر مناقشات وطنية حرّة وراقية، في جلسات لجنة الدستور المنبثقة من المجلس التأسيسي، وكذلك مناقشات المجلس التأسيسي ذاته، وهو ما سطرته محاضر لجنة الدستور ومضابط المجلس التأسيسي، التي تمكّنت من نشرها من خلال النسخة التي حصلت عليها عام 1985، ونشرتها بالتعاون مع مجلة كلية الحقوق عام 1999.لقد كانت لغة الحوار والمناقشات راقية، وفيها استيعاب واحترام للآخر، ويحفّها حسّ وطني فريد في إنجاز المهمة، بلا شطط من النواب ولا تعسّف من أسرة الحكم ومن يمثّلها داخل المجلس التأسيسي.
وقد كان الأمير الراحل الشيخ عبدالله السالم هو من يرعى تحقيق التوافقات والرضائية، إذ وضع قاعدة راسخة تعتبر عموداً فقرياً لنظامنا السياسي والدستوري، ألا وهي حياد الأسرة والنأي بها عن مواضع المنافسة والنزاع السياسي، مبتدئاً ذلك بتوجيهه لأبناء الأسرة الحاكمة من الوزراء، وكان عددهم 11 وزيراً، بالامتناع عن التصويت على مواد الدستور، ليكون إقراره شعبياً خالصاً، وهو ما تم فعلاً، وتوثّق ذلك مضابط المجلس التأسيسي، وهو جاء تعبيراً عن الحالة العامة والرضائية السياسية التي تحكم العلاقة بين أسرة الحكم والشعب الكويتي منذ نشأة الكويت عام 1756. إن أصداء تلك الرضائية تمخّض عنها دستور متوازن بنظام برلماني متميّز بأبعاده الوطنية ونكهته الكويتية، وتعتبر تلك التوازنات ركائز جوهرية للنظام الدستوري الكويتي، في حفظ مكانة أسرة الحكم ومرجعيتها، وحصر الحكم في ذرّيتها بنظام عملي ومنطقي وسياسي متفتح ومرن، وفِي ضبط نظام توارثها للإمارة، والنأي بها عن مواضع التجريح، وتشييد فكرة أبوية الأمير للسلطات سياسياً، وتحييد اختصاصاته دستورياً لتكريس فكرة ذاته المصونة، والنأي به عن المساءلة، ولتكون ممارسته لسلطاته بواسطة وزرائه وفقاً لمنطق النظام البرلماني الذي هو رديف للأنظمة الملكية.وتلمس أصداء ذلك أيضاً في إقامة نظام برلماني، الحكم فيه للشعب مصدر السلطات، والأسرة تسود ولا تحكم، ممثلة بالأمير ووليّ العهد، وهو ما عبّرت عنه نصوص الدستور المتفرقة، وعلى رأسها المادتان الرابعة والسادسة.وعلى الرغم من بعض العثرات والتجاوزات التي تمت في الممارسة ومثلّت خروجاً واضحاً من الأسرة الحاكمة على الدستور، فقد قابلها بعض الممارسات المتعسفة من بعض أعضاء مجلس الأمة، معظمها تولدّت باعتبارها ردّة فعل لتخوفات شعبية مشروعة عن تلك التجاوزات لأسرة الحكم.لكن تبقى فضيلة مهمة، أفرزتها الرضائية والتوافقات بين الأسرة والشعب من جهة، والحس الوطني لكليهما من جهة أخرى، والبناء الدستوري المتين لنظامنا السياسي، هو الضمانة التي كانت تعود بالجميع إلى العهد والوثيقة الدستورية، تجديداً للعهد وتبديداً لكل الاختلافات، وهي التوافق.ولما كانت السنوات الأخيرة قد شهدت تراجعاً غير مقبول عن الرضائية السياسية، والحدود الدستورية، بصورة متتالية من قبل أسرة الحكم، إلى جوار انتقاص دور السلطات، والنيل من بنية دولة المؤسسات، فإنّ إرهاصات المرحلة السياسية اليوم، تستوجب التذكير بذلك لانتشال البلد من قَلَّتِه، وإعادة حيويته، بالحفاظ على النظام الدستوري وركائزه، وهي عدم المساس بالدستور، أو إفراغه من مضامينه بأية ممارسات، وحفظ حياد الأسرة والنأي بها عن التجريح، بوقف تمدّدها لأدوار خارج نطاقها الدستوري، والاستجابة للطبيعة الرضائية للبناء الدستوري باستيعاب كل طرف للآخر بسياقه الدستوري بلا تفرُّد أو تعسّف منهما، وإعادة الاعتبار للسلطات ودولة المؤسسات، وتعزيز استقلالية مجلس الأمة بإصلاح النظام الانتخابي، وإفساح المجال لمجلس الوزراء بدعم نيابي وتدوير للإدارة الحكومية، وتطوير القضاء وتداول المناصب القضائية، وإلغاء القوانين المقيدة للحريات، ومصالحة وطنية بعفو عام، والانطلاق نحو إعادة الكويت إلى طبيعة نظامها البرلماني المميز، ودولة التنمية والرفاه وواحة الحرية والعدل التي اشتهرت بها.وإذ نشهد بوادر ذلك في العهد الجديد، فإننا متفائلون بإمكانية تحقيقه تجديداً للعهد، برعاية سمو الأمير وسمو ولي العهد، حفظهما الله، وبتعاون برلماني وشعبي مسؤول.