مناعة جماعية ضد الحملات الدعائية عبر الإنترنت
كان منتدى «بارلر» أداة تواصل أساسية بين الناس قبيل اقتحام مبنى الكابيتول في العاصمة واشنطن، وعمدت شركة "أمازون"، منذ ذلك الحين، إلى حذفه من خدمات الاستضافة السحابية فيها. هل عولجت المشكلة بهذه الطريقة؟
لا. كان هذا النوع من الحلول التقنية السريعة ليكون محبذاً، لكنّ الوضع أكثر تعقيداً من ذلك.
لكن هل كانت أعمال الشغب داخل مبنى الكابيتول لتحصل لولا مواقع التواصل الاجتماعي؟
ساعدت مواقع التواصل الاجتماعي المنظّمين حتماً، على المديين القصير والطويل. بدأ الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب يجمع منذ سنوات مجموعة أشخاص يحبون نظريات المؤامرة، ويبحثون عن قصص متطرفة ومؤثرة. تُسهّل مواقع التواصل الاجتماعي إيجاد هذا النوع من الناس واستهدافهم والاستفادة منهم. بعد هذه الاستعدادات المطوّلة إذاً، تمكّن ترامب من تقوية مفعول كلامه فجأةً واستعمل الشرارة التي يحتاج إليها: إنها رسائله التي حرّكت مناصريه وشجّعتهم على السير نحو مبنى الكابيتول. كان هذا النوع من التواصل السلس مع المناصرين ليكون أكثر صعوبة بكثير في حال استعمال وسائل الإعلام الاحترافية كصلة وصل بين الرئيس وأتباعه.تمّ حظر ترامب على "تويتر" بشكلٍ دائم. لكن ألا تُعتبر هذه الخطوة غير فاعلة بما أن مناصريه سبق أن انتقلوا إلى منصات أكثر ترحيباً بهم مثل "ذا دونالد" أو "بارلر"؟
لا، لأن مستخدمي "بارلر" اليوم يشكلون حتى الآن أقلية صغيرة: قد تصل نسبة الناخبين الذين يستخدمون هذا النوع من المواقع الهامشية إلى 10 في المئة في أفضل الأحوال، لذا يبقى نطاق تحركهم محدوداً بشكل عام. وتعني وجهات نظرهم التحررية على نحو متطرف أن منصات مثل "بارلر" مثلاً بدأت تتخبط لأنها تغرق بالمواد الإباحية. هذا العامل يحدّ من نطاق توسّع "بارلر"، لأن عدداً كبيراً من المحافظين يؤمن بحرية التعبير وقد يدعم ترامب، لكنه لا يحبذ التلاقي مع أشخاص يحملون الآراء نفسها في موقع محاط بالمواد الإباحية.هل يعني ذلك أن هذه المواقع المتطرفة لا أهمية لها لأنها تعجز عن التوسّع؟
لا، هي تلعب دوراً مهماً للأسف. تشبه منصات "بارلر" و"ذا دونالد" و"بريتبارت" و"آنون" الأطباق المخبرية التي تُستعمَل لاختبار الأفكار وتقييم القدرة على نشرها. إذا لاحظ المتطرفون المؤثرون أن فكرة معينة بدأت تجذب انتباهاً واسعاً، سيعمدون إلى نشرها على نطاق أوسع. وفق لغة الأمراض، يمكن القول إن هذه المنصات هي الأداة الناقلة، بما يشبه الجرثومة التي تنقل المرض إلى منصات عامة أخرى.هل تعتبر تطبيق "بارلر" إذاً بمنزلة مختبر أبحاث وتطوير لنشر نظريات مؤامرة جديدة ومُحسّنة؟
نعم. في مرحلة معينة، قد تأخذ جهة مؤثرة كبرى عنصراً جديداً من تلك المنتديات المتطرفة وتنشرها أمام الجمهور الواسع. الأمر أشبه بالإصابة بمرض يحتاج إلى أداة ناقلة مثل الملاريا، حيث ينتقل المرض عبر البعوض. قد يقرر ممثل في هوليوود أو أي جهة مؤثرة لا تعرف شيئاً عن السياسة أخذ هذه الفكرة ونشرها على منصة معروفة تصل إلى أكبر جمهور ممكن. انطلاقاً من هناك، تنتشر هذه المواد حين تنتقل من "بارلر" إلى "ريديت" مثلاً، ومن هناك إلى "تويتر"، و"فيسبوك"، و"إنستغرام"، و"يوتيوب". هذا ما نسمّيه "شلال المعلومات المغلوطة".عند دحض نظرية مؤامرة على إحدى المنصات وبإحدى اللغات إذاً، هل يمكن أن تعود وتشتق من شبكة أو دولة أخرى مجدداً، كما حصل مع فيروس شلل الأطفال الذي تم استئصاله بشكلٍ شبه كامل من العالم، باستثناء دول مثل باكستان التي تُعتبر معقلاً له؟
إنها مقارنة مثيرة للاهتمام. تُعتبر منصات عدة معاقل لحملات التضليل المُعدية التي تمتد إلى أماكن أخرى بسرعة فائقة. داخل أوروبا، يمكن اعتبار بولندا والمجر معقلَين لحملات التضليل. تصل نظريات المؤامرة إلى هناك قبل أن تنتشر في أماكن أخرى. ويصعب احتواء هذا الشلال من المعلومات المغلوطة، على غرار فيروس "كوفيد- 19".هل يمكن إحداث فرق حقيقي إذا طرح الاتحاد الأوروبي مقاربات تنظيمية جديدة، مثل قانون الخدمات الرقمية الذي يهدف إلى تقوية تدابير مراقبة المحتوى؟
نعم، أعتبر قانون الخدمات الرقمية مفيداً جداً. تحمل أوروبا سجلاً ناجحاً من حيث تطوير السياسات الخاصة بقطاع التكنولوجيا. تكون هذه السياسات استشارية لكنها تعطي ثمارها بعد انتهاء مرحلة التشاور. أظن أن أوروبا كانت تستطيع بذل جهود إضافية ضد حملات التضليل خلال الانتخابات الأخيرة في البرلمان الأوروبي. لكن بشكل عام، يسير الاتحاد الأوروبي في الاتجاه الصحيح. يصعب أن نتوقع من أي وكالة أو مؤسسة أميركية أداء دور قيادي مماثل. في الولايات المتحدة، يقع هذا القرار في الوقت الراهن على عاتق شركات خاصة مثل آبل وأمازون وغوغل.حملات تضليلقدّمتَ للتو تقريراً جديداً حول حملات التضليل عبر الإنترنت. هل سبق وبلغت هذه الحملات ذروتها؟ وهل تتوقع أن تهدأ الأوضاع بعد رحيل ترامب؟
إنه احتمال واعد لكنه مستبعد. تكشف نتائجنا أننا نسير في الاتجاه المعاكس. يذكر تقريرنا من عام 2020 أن نشاطات الجيوش الإلكترونية تتابع توسّعها حول العالم. هذه السنة، وجدنا أدلة تثبت أن 81 دولة تستخدم مواقع التواصل الاجتماعي لنشر حملات دعائية محوسبة ومعلومات مغلوطة حول السياسة. ارتفع هذا العدد مقارنةً بنتيجة تقرير السنة الماضية، فقد رصدنا حينها نشاطات الجيوش الإلكترونية في 70 بلداً. اتخذت شركات الإعلام بعض الخطوات ضد هذه الظاهرة، لكن لا تتوقف المشكلة عن التفاقم. تكشف الإعلانات العامة على فيسبوك وتويتر بين يناير 2019 وديسمبر 2020 أن أكثر من 317 ألف حساب وصفحة حُذِفت من هذه المنصات. لكن تصرف الجيوش الإلكترونية الناشطة حول العالم حتى الآن نحو 10 ملايين دولار أميركي على الإعلانات السياسية.من يقف وراء حملات التضليل تلك؟
تتابع الشركات الخاصة تقديم العروض لتنظيم حملات التلاعب. خلال السنة الماضية، اكتشفنا 63 حالة جديدة تعاونت فيها الشركات الخاصة مع الحكومات أو الأحزاب السياسية لنشر معلومات مغلوطة حول الانتخابات أو مسائل سياسية مهمة أخرى. كنا قد رصدنا 21 حالة مماثلة بين العامين 2017 و2018، و15 فقط بين 2009 و2016. في المحصّلة، صُرِف مبلغ 60 مليون دولار لتكليف الشركات بإطلاق حملات محوسبة منذ عام 2009.وفق بعض المعايير في دراستك، يبدو أن بريطانيا تطبّق استراتيجية قوية في مجال حملات التضليل، بالإضافة إلى دول أخرى مثل روسيا والفلبين وماليزيا. ما الذي يدفع دولة ديمقراطية إلى الاستثمار لهذه الدرجة في قطاع حملات التضليل؟
ثمة سببان لفعل ذلك. أولاً، يتواجد عدد كبير من المستشارين المكلّفين بطرح أفكار مبتكرة حول حملات التضليل في الولايات المتحدة. وحين يحاول هؤلاء إيجاد عملاء جدد، يميلون إلى التوجه نحو كندا وبريطانيا نظراً إلى اللغة المشتركة بين هذه البلدان وبعض القواسم الأخرى في سوق الإعلام. ثانياً، تستعمل بريطانيا، داخل السياق الأوروبي، أخفّ الضوابط خلال الانتخابات وتفتقر السلطات الانتخابية هناك إلى الموظفين وتكثر أعباؤها. إنها ظروف مثالية بالنسبة إلى الوكالات التي تطلق حملات التضليل.جاذبية نيجيريافي إفريقيا، يبدو أن نيجيريا بدأت تتحول إلى معقل لحملات التضليل. ما هي النقطة الجاذبة في هذا البلد؟
في الماضي، اعتاد الكثيرون على استعمال مقاهي الإنترنت على جانب الشوارع في نيجيريا للقيام بتدريبات الصيد البسيطة. لكن بدأت الأحزاب السياسية في دول مثل نيجيريا وكينيا وجنوب إفريقيا وغانا اليوم تستعمل حملات التضليل، ما أدى إلى تبنّي مقاربة مستهدفة وأكثر احترافية للتعامل مع الحملات الدعائية عبر الإنترنت. لكن تستعمل هذه الحملات في عدد كبير من الدول الإفريقية الرسائل النصية عبر الهواتف الخليوية بدل مواقع التواصل الاجتماعي في المرحلة الراهنة، لأن الرسائل النصية أكثر أهمية.يذكر تقريرك أن العملاء الروس يشترون الخدمات اللازمة لإطلاق حملات التضليل من وكالات نيجيرية. ما الذي يدفع الوكالات الروسية التي تحظى بتمويل واسع إلى شراء هذه الخدمات من جهات مبتدئة مثل نيجيريا؟
أظن أن العامل الأساسي يتعلق بكلفة اليد العاملة. لإدارة آلاف الحسابات المزيفة وتحقيق غايات شخصية، لابد من بذل جهود فائقة، لاسيما عند إطلاق حملة دعائية بلغة أجنبية، لذا أفترض أن الروس وجدوا في نيجيريا مختبراً يستطيع منحهم الخدمات التي يريدونها بأسعار تنافسية. لكن يبدو أن دولاً مثل الصين وروسيا بدأت تهتم بالنفوذ السياسي في بعض الدول الإفريقية وربما خصصت نيجيريا قطاعاً خاصاً بحملات التضليل لهذا الجزء من العالم.كيف يمكن أن نحمي الديمقراطية من هذا القطاع العالمي المخصص لحملات التضليل؟
على كل شركة مسجّلة في بورصة نيويورك أن تقدم ملفاً فيه تفاصيل عنها إلى "هيئة الأوراق المالية والبورصات". ما الذي يمنع استعمال هذا النظام مع شركات مواقع التواصل الاجتماعي التي تُعنى بإدارة منصات عامة ومفتوحة؟ على كل شركة منها أن تقدّم بياناً معيناً حول طريقة تعاملها مع حالات الاستغلال، والإبلاغ عن خطابات الكراهية، وكيفية التحقق من الوقائع... هذا النظام من الشفافية والمحاسبة يناسب أسواق الأوراق المالية، فما الذي يمنع استعماله إذاً في عالم مواقع التواصل الاجتماعي؟ لن يفرض هذا النظام قواعد مفرطة، بل إنه يسهم في إنشاء نوع فاعل ومفتوح وشفاف من سوق الأفكار.ألا تستعمل الشركات هذا النظام أصلاً؟
بلى. سبق أن نشرت شركات غوغل وتويتر وفيسبوك أشكالاً معينة من التقارير، لكنها مبادرات طوعية وغير متكاملة ولكل منها صيغة مختلفة. يجب أن تُنظَّم هذه العملية بالطريقة التي أفادت أسواق الأوراق المالية لمنع عمليات الاحتيال وتعزيز الثقة وضمان ازدهار الجهات الصادقة.هل تتعلق المشكلة الحقيقية بمواقع التواصل الاجتماعي أم ان هذه المنصات مجرّد أعراض لمشاكل أكثر عمقاً مثل ضعف الثقة بالمؤسسات وتوسّع مظاهر اللامساواة الاجتماعية؟هذا صحيح على الأرجح. لكنّ حلّ هذه المشاكل يتطلب استراتيجية طويلة الأمد. لا يمكن معالجة اللامساواة الاجتماعية قبل مرور سنوات. لكن يجب أن نتحرك بوتيرة أسرع. نحتاج بكل وضوح إلى منهج رقمي للتربية المدنية. اليوم، بدأ المراهقون بين عمر 12 و16 سنة يطوّرون مواقفهم الإعلامية، وسيحصلون على حق الانتخاب قريباً. تنتشر توعية إعلامية فاعلة جداً في كندا أو هولندا مثلاً، وهي استراتيجية ممتازة على المدى الطويل.هل يستطيع الرأي العام أن يطوّر مناعة جماعية ضد عدوى حملات التضليل؟
يمكن اعتبار المناعة الجماعية ضد الحملات الدعائية المفتعلة والمعلومات المغلوطة عبر الإنترنت هدفاً يستحق العناء. لكن لا يمكن أن تتطور أي مناعة نفسية قوية من تلقاء نفسها، بل يجب أن نشارك في تطويرها ونزيد قوتها، كما يحصل مع لقاح "كوفيد-19" اليوم. لا يلتقط الناس العدوى بكل بساطة بل يتلقون اللقاح أيضاً كي يواكبها جهاز المناعة بالسرعة المطلوبة.ما هي الحدود التي ستتجاوزها حملات التضليل في المرحلة المقبلة؟ هل يُعقَل أن تنتشر فيديوهات مزيفة ومبنية على الذكاء الاصطناعي لجعل الخصوم السياسيين يقولون كلاماً لم يتفوهون به يوماً؟
نعم، يبدو أن هذا المجال أصبح قيد التطوير. لكن حتى الآن، لم تنتشر تلك الفيديوهات المزيفة على نطاق واسع ولا يمكن اعتبارها مُعدِية جداً. يبدو أن عملية تجميع هذه الفيديوهات المزيفة تعطيها خصائص وبيانات يسهل أن ترصدها أنظمة الحلول الحسابية المستعملة في شركات مثل يوتيوب. حتى الآن، يمنع حاجز معيّن إغراق الجمهور بفيديوهات مزيفة وحملات دعائية مبنية على الذكاء الاصطناعي. لكن قد يتغير هذا الوضع في مرحلة معينة. قد نجد أمثلة على ذلك في تقريرنا المقبل.هيلمار شموندت - دير شبيغل
يمكن اعتبار المناعة الجماعية ضد الحملات الدعائية المفتعلة والمعلومات المغلوطة عبر الإنترنت هدفاً يستحق العناء*
لإدارة آلاف الحسابات المزيفة وتحقيق غايات شخصية لابد من بذل جهود فائقة لاسيما عند إطلاق حملة دعائية بلغة أجنبية
اليوم بدأ المراهقون يطوّرون مواقفهم الإعلامية وسيحصلون على حق الانتخاب قريباً
شلال من المعلومات المغلوطة ينساب بانتقال المواد من «بارلر» إلى «ريديت» ثم إلى «تويتر» و«فيسبوك» و«إنستغرام»