وباء الكويت سنة 1831... لم يكن طاعوناً!
تثير الأوبئة في الإنسان وبخاصة الفيروسية منها مختلف الأسئلة، إذ لا يكاد المرء يصدق أن كل هذا البلاء ينزل بالدار والديار والناس والمجتمعات من فعل كائن غامض كالفيروس، "لا لون له ولا رائحة" ولا يكاد لصغره المتناهي يُرى إلا بأقوى المجاهر.وقد يسهل على الإنسان أن يفهم النظام الكوني الجبار نقيض الذرة والنواة والفيروس ويتصور تفجر النجوم وتشكل الكواكب والثقوب السود، ربما لأنه يرى بعض آثار حجمها ونواتج اصطدامها وينبهر بكل هذه الألوان الرائعة التي تقربها لنا التلسكوبات الجبارة، رغم أن هذه الألعاب الكونية الرائعة تجري على مبعدة ملايين السنوات الضوئية، بل ربما وقعت كذلك قبل ملايين السنين! والسنة الضوئية بدورها قياس للمسافة والزمن، ومن شروط السنة الضوئية أن يرحل الضوء في فراغ كامل لمدة عام نجمي Sidereal Year تقدر بنحو 6 ملايين ميل والرمز العلمي للسنة 1Ly=0.3069PC، تاركا فهم وإدراك هذا كله لفطنة القارئ!ولكن كيف له أن يتصور عالم الميكروبات وحركتها ونواتها؟!
يشرح كتاب "الأقرباء" الذي أشرنا إليه مرارا والذي أصدرته وزارة الإعلام من خلال سلسلة عالم المعرفة فبراير 2020، كيف تعرفنا على صلات القرابة بين الميكروبات وسواها من الكائنات، ويقول المؤلف أنغراهام فيه عن الفيروسات ما يلي: "إن الكيفية التي صارت بها الفيروسات إلى ما هي عليه، وكيف ترتبط بالحياة، لا تزال لغزاً. هناك نظريتان لذلك في الوقت الحالي ترى إحداهما أن الفيروسات تطورت في وقت مبكر من تاريخ الحياة ربما قبل ظهور الخلايا، أما الأخرى فتقترح عكس ذلك، أي أن الفيروسات هي نواتج لخلايا متطورة أو "جينات طليقة"، أي الجين الأناني المثالي، تقول النظرية الأخيرة وهي تلك التي أفضلها إن بعض الجينات الهاربة من جينوم كائن حي أصبحت مغلفة بقفيصة، وأصبحت بواسطة الانتقاء قادرة على التكاثر على حساب خلايا أخرى". (ص46).ولا تزال مثل هذه الألاعيب والخدع تجري في الطبيعة فيما يبدو، وقد شاهدت في بعض برامج التلفاز طائرا يضع بيضه "بشكل سري" في غير عشه كي يقوم طائر آخر بمهام التوليد والتربية مجانا بدلا عنها، في حين تتفرغ هي للاستمتاع بوقتها والطيران في الحدائق، ولا أعرف كيف تطور هذا السلوك لدى الطائر الأم!سمعنا الكثير على امتداد عام عن أعراض مرض كوفيد وكورونا، وقد رجعت لبعض الكتب لمعرفة أعراض مرض الطاعون الذي تحدثنا عنه والذي أصاب معظم دول العالم عبر التاريخ.. بما في ذلك الكويت حيث كاد يقضي على سكانها!تحدث المؤلف المعروف "محمد فريد وجدي" في دائرة المعارف، جـ5 الصادرة عام 1910 عن أعراض المرض فقال: "تبقى الجراثيم الطاعونية كامنة في جسم من علقت به من ثلاثة إلى سبعة أيام، ثم تبتدئ الأعراض بانحراف عام في الصحة وتهوّع ورعشة يصحبها صدام، ثم يعقب ذلك اصفرار في الوجه واحتقان في العينين ولجلجلة في الكلام واضطراب في المشي وميل للنوم وهذيان واشتداد الظمأ وابيضاض اللسان وتشققه، ثم يجيء دور القيء والإسهال والإمساك وترتفع في أثناء ذلك درجة الحرارة من 37 إلى 40 و41 و42 وتشتد حركة التنفس وتلتهب الرئة ويبصق المريض دماً، ويقل بوله، فإذا قاوم الإنسان المرض مقاومة طبيعية وحمية شفي منه بعد ثلاثة أيام ويبدأ فيه دور النقاهة بإفراز جلدي كبير يعم جميع جسمه. وإن لم يبدأ في النقاهة ظهرت على جلده الخراجات واللطخ والجمرات الخبيثة في الإبطين والأريبة وهي الطيات الخلفية للركبتين أو الأمامية للفخذين، وفي العنق وضعف نبضه ومات المصاب قبل اليوم السابع أو في آخره. وقد تطول مدة المرض إلى اثني عشر يوما، وقد يضعفه الطاعون ضعفا فيموت بسرعة". (دائرة المعارف، جـ5).وانتشر هذا الوباء في الكويت كما تقول المراجع عام 1831، ويشير اليه المؤرخ عبدالعزيز الرشيد في كتابه المعروف فيقول: "في سنة 1247 أصيبت الكويت بطاعون عظيم قضى على كثير من أهلها حتى كادت تصبح منه قفرا يبابا، لولا المسافرون من أهلها الذين لم يتراجعوا إليها إلا بعد صفاء جوها من تلك الظلمة، رجعوا إليها ولكن وجدوا الطاعون قد فتك بكثير من نسائهم فاضطروا الى استقدام عوضهن من البلاد المجاورة، كالزبير ونجد وغيرها، وبذلك حفظوا البلد من العدم والفناء، وفي أثناء تلك المعمعة أغلق أهل بيت في (الشرق) دارهم وادخروا فيها ما يكفيهم من طعام وشراب ولم يسمحوا لأحد بالدخول عليهم خوفا من تسرب العدوى.فكان هذا البيت من جراء هذا التحفظ هو الوحيد في الكويت الذي لم يصب من يد الطاعون بضرر غير أن امرأة منهم حاولت الخروج لتنظر ما أصاب أهلها فأنزلوها بحبل من السطح، ثم رجعت إليهم أخيراً فلم يفتحوا لها فرجعت أدراجها وقضى عليها كما قضى على غيرها". (تاريخ الكويت - طبعة 2016 بإشراف خالد عبدالقادر الرشيد، ص124). ونتساءل: من شخّص للكويتيين المرض يومذاك؟ وهل ما أصاب الكويت عام 1831 كان الطاعون Plague أو ما يسمى كذلك Pestilence تحديداً؟ أم وباء لا يقل عنه خطورة كالكوليرا والجدري أو أي فيروس آخر؟ وهل في المراجع التاريخية الخليجية خاصة ما يصف الأعراض التي ظهرت على المرض آنذاك؟يقول "لسان العرب": والطاعون المرض العام والوباء الذي يفسد له الهواء فتفسد به الأمزجة والأبدان" والمصاب بالوباء أو المرض يسمى "الطعين" و"المطعون"، وفي الحديث النبوي ينقل ابن منطور (1232- 1311) "فناء أُمتي بالطعن والطاعون". الطعن: القتل بالرماح، والطاعون المرض العام (لسان العرب مادة طعن). تحدثت مخطوطات عربية كثيرة عن الوباء والطاعون، وفي كتاب "معجم الموضوعات المطروقة في التأليف الإسلامي"، لعبدالله بن محمد الحبشي المجمع الثقافي- أبوظبي، 1997، إشارة إلى العديد من هذه المخطوطات والرسائل أو منها "تحقيق الأنباء فيما يتعلق بالطاعون والوباء"، لابن سودة. و"تسلية الواجم في الطاعون الهاجم"، للحنبلي. و"خلاصة ما يحصل عليه الساعون في أدوية دفع الوباء والطاعون"، للبيلوني. و"رسالة في الطاعون وجواز الفرار منه"، لمصلح الدين. وكذلك رسالة مماثلة للبدليسي، و"السر المكنون في أبحاث الطاعون"، لرشدي. و"الطب المسنون في دفع الطاعون" لابن أبي حجلة. و"القول المتين في أن الطاعون لا يدخل البلد الأمين"، للحطاب. و"ما يفعله الواعون لدفع شر الطاعون"، لمرعي الكرمي... إلخ.وبعض هذه الرسائل متعارضة، فهناك مخطوطات ورسائل في عدم إمكانية دخول الوباء مكة المكرمة والمدينة المنورة ومنها "البشارة الهنية بأن الطاعون لا يدخل مكة والمدينة"، للرُّعيني، وفي الوقت نفسه ثمة رسالة بعنوان "جواب الوزير على حرمة امتناع الحاج عن دخول مكة عند الوباء الكثير"، للخربوتي. (انظر معجم الموضوعات، ص 393).وتقول بعض المراجع إن الطاعون الرئوي من الأنواع الثلاثة للطاعون البشري (الدملي- التسممي- الرئوي) هو الأخطر على المريض ومخالطية، وهو النوع الوحيد الذي يمكن أن تنقل عدواه من المصاب الى السليم. وهناك بالطبع إلى جانب الطاعون البشري "طاعون البقر" و"طاعون الدجاج"... إلخ، وقد تطلق تسمية الطاعون على كل وباء عام آنذاك.ونعود الى إشارة مؤرخ الكويت الرشيد إلى "الطاعون العظيم"، واحتمال أن يكون ذلك "الطاعون" مجرد "كوليرا" انتقلت إلى الكويت بعد انتشارها في العراق ابتداء من عام 1820 لثلاث سنوات لاحقة، ويقول أحد المراجع تأكيدا لهذا الاحتمال ما يلي: "ظهر وباء الكوليرا في العراق وخاصة في بغداد نتيجة زيادة أعداد القتلى ونفوق الماشية بسبب الحصار الذي فرضه الفرس على المدينة عامي 1820 و1821، مما أحدث تلوثا في مياه نهري دجلة والفرات، ولقد كان عام 1823 هو أشد عام للوباء... ولم يكن هناك في ذلك الوقت أية إجراءات طبية تمنع الوباء أو تعالجه مما أدى إلى موت أعداد غفيرة من الناس وفرار العديد من سكان بغداد الى المدن والجبال الخالية من الخطر".(موسوعة 1000 حدث إسلامي عبدالحكيم العفيفي، بيروت 1997، ص340).