الديماغوجيون مقابل الدكتاتوريين
بينما كان الدكتاتوريون الفاشيون في فترة ما بين الحربين العالميتين مدعومين من المؤسسات العسكرية والشرطة وأعضاء الحكومة والمؤسسات التجارية في بلدانهم، كان الشعبويون يعتمدون على دعم الجماعات غير النخبوية المُنفردة وعادة ما يُواجهون مُعارضة معظم مراكز القوى الأخرى في المجتمع.
طوال فترة ولاية دونالد ترامب الوحيدة كرئيس للولايات المتحدة، وصفه خصومه في كل من الحزبين الديمقراطي والجمهوري باعتباره رئيسا دكتاتوريا فاشيا مُحتملا، لكن مع خروج ترامب من البيت الأبيض، أصبح هذا التشبيه غير مقبول، إذ إن الزعيم الإيطالي الذي يُشبهه ترامب أكثر ليس الدكتاتور الفاشي بينيتو موسوليني، بل بالأحرى سيلفيو برلسكوني، رئيس الوزراء السابق الذي يُعد رمزا للفضائح.إن شخصيات مثل ترامب وبرلسكوني- كبار رجال الأعمال أو مشاهير الإعلام الذين ترشحوا للمناصب باعتبارهم ديماغوجيين شعبويين مناهضين للمؤسسة- ليست بارزة في الديمقراطيات الغربية المُعاصرة. في أوروبا تضم القائمة قادة منتخبين مثل رئيس الوزراء التشيكي أندريه بابيس، أحد أغنى الرجال في البلاد، والرئيس الأوكراني السابق بترو بوروشنكو، الذي كان يُعرف سابقا باسم "ملك الشوكولاتة" في بلاده؛ وخليفته فولوديمير زيلينسكي، ممثل كوميدي سبق له أن أدى دور رئيس أوكراني على شاشة التلفزيون.على الرغم من أن ترامب هو أول ديماغوجي فعليّ يتم انتخابه للرئاسة الأميركية، فإن الفنان أو الحاكم الثري الذي يفوز بالمنصب من خلال الظهور كبطل لعامة الناس كان يُشكل عنصرا أساسيا في سباقات رؤساء البلديات وحُكام الأقاليم لأجيال. أصبح مشاهير وسائل الإعلام، على وجه الخصوص، أساسا مشتركا بشكل متزايد للنجاح الانتخابي في أميركا.
في الثلاثينيات من القرن الماضي، أصبح نجم إذاعة موسيقى الريف دبليو لي "بابي" أودانيال حاكما لولاية تكساس ثم سيناتورا أميركيا، قفي الستينيات والثمانينيات، انتقل رونالد ريغان الشهير من ممثل في هوليوود إلى حاكم ولاية كاليفورنيا ثم شغل منصب رئيس الولايات المتحدة، وعلى نحو مماثل، بدأ جيسي هيلمز، السيناتور الأميركي الراحل عن ولاية كارولينا الشمالية، العمل كنجم إذاعي يميني، ثم في عام 1999، انتُخب نجم المصارعة التلفزيوني الشهير جيسي فينتورا (الذي حاول بمساعدة ترامب السيطرة على حزب الإصلاح بزعامة روس بيرو) لفترة ولاية واحدة كحاكم لولاية مينيسوتا، وفي عام 2003، أصبح النجم السينمائي أرنولد شوارزنيجر حاكم كاليفورنيا دون أي خبرة سياسية سابقة. (سبق أن شغل فينتورا منصب عمدة لبلدية إحدى ضواحي مينيابوليس).لا يعتزم الديماغوجيون الشعبويون في البلدان الديمقراطية عموما تأسيس دول بوليسية، ولا يمكنهم القيام بذلك حتى لو حاولوا، وفي حين كان الدكتاتوريون الفاشيون في فترة ما بين الحربين العالميتين مدعومين من المؤسسات العسكرية والشرطة وأعضاء الحكومة والمؤسسات التجارية في بلدانهم، يعتمد الشعبويون على دعم الجماعات غير النخبوية المُنفردة وعادة ما يُواجهون مُعارضة معظم مراكز القوى الأخرى في المجتمع.ولذلك، يُمثل العديد من الديماغوجيين البارزين في الجنوب الأميركي- مثل حاكم ولاية لويزيانا (ثم عضو مجلس الشيوخ الأميركي) هيوي ب. لونغ أو فريق الزوج والزوجة من حُكام تكساس الشعبويين جيمس "با" وميريام "ما" فيرغسون- صغار المزارعين والطبقة العاملة البيضاء ضد طبقة النبلاء الغنية التي احتكرت الثروة والمناصب السياسية في ولاياتها.يستغل بعض الديماغوجيين مُعاناة الأقليات العرقية بسبب استبعادهم من الثروة والسلطة، ففي النصف الأول من القرن العشرين، فاز جيمس مايكل كيرلي، عمدة بوسطن الفاسد أربع ولايات وحاكم ولاية ماساتشوستس فترة واحدة، وتولى السلطة من خلال تمثيل الطبقة العاملة من الأميركيين الأيرلنديين ضد النخبة البروتستانتية الأنجلو أميركية الذين يُطلق عليهم براهمة بوسطن. وعلى الرغم من أنه بإمكان الديماغوجيين الشعبويين تحديد المظالم المشروعة بين بعض الناخبين، فإنهم عاجزون تماما عن الوفاء بوعودهم لأتباعهم، فقد أصبح بعض حُكام الولايات، مثل أودانيال في ولاية تكساس، واجهات لمصالح المؤسسة، في حين يكتفي آخرون بإنشاء آلات رعاية شخصية، مُستخدمين سلطاتهم الرسمية لمكافأة أفراد أسرتهم أو أصدقائهم المُقربين، فنادرا ما يعمل الديماغوجيون على إنشاء هياكل مؤسسية جديدة قادرة على تنفيذ الإصلاحات بعد فترة طويلة من تركهم مناصبهم.في حالة كيرلي، أدى صهره إدوارد دونيلي خرّيج جامعة هارفارد دورا مُشابها لدور صهر ترامب خرّيج جامعة هارفارد غاريد كوشنر، وفي ولاية لويزيانا، أنشأ لونغ سلالة عائلية ضمت شقيقه إيرل، الذي تبعه كحاكم، وراسل لونغ، الذي أصبح عضوا في مجلس الشيوخ الأميركي لفترة طويلة من لويزيانا. على أي حال، تميل المهن السياسية للشعبويين الديماغوجيين إلى أن تكون غنية بالفضائح وقضايا الفساد، ففي حين أقام برلسكوني حفلات "بونغا بونغا" سيئة السمعة، أصدر ترامب شريط "أكسس هوليوود"، حيث كان يتباهى بالاعتداء الجنسي على النساء. وعلاوة على ذلك، هناك العديد من قضايا الكسب غير المشروع والجريمة الصريحة، كما هي الحال مع كيرلي، فقد حُكم على برلسكوني بالسجن، بصفته حاكما سياسيا لولاية لويزيانا في الثلاثينيات، وعقد لونغ اتفاقا مع رجل العصابات في نيويورك فرانك كوستيلو من أجل تقاسم أرباح المقامرة في الولاية، حتى في الوقت الذي قام فيه أتباعه "بسحب" الأموال من الرواتب الحكومية في الولايات من أجل الاستفادة من صندوق دعم الحملة الانتخابية الذي أصبح معروفا باسم "صندوق الخصم"، وفي ولاية تكساس، عمَد الحاكمان جيمس "با" وميريام "ما" فيرغسون إلى تمويل آليتهما السياسية عن طريق بيع العفو لأسر المجرمين المُدانين. إن التقارير الأخيرة التي تفيد بأن حلفاء ترامب حصلوا على أموال للضغط على الرئيس المنتهية ولايته من أجل العفو مدفوعة بالفساد لا الدكتاتورية.وبطبيعة الحال، أدى اقتحام أنصار ترامب لمبنى الكابيتول الأميركي حتما إلى إجراء مُقارنات مع جنود العاصفة النازية وجماعات القمصان السوداء الإيطالية الفاشية، ومع ذلك، يُقدم تاريخ أميركا الخاص تشبيهات أكثر دقة لفهم الغوغاء الذي أقامه المؤيدون لمبدأ "جعل أميركا عظيمة مُجددا". ليس من قبيل المصادفة أن يكون لشخصية الزعيم فينلي، الزعيم الديماغوجي لولاية جنوبية، في مسرحية "طائر الشباب الجميل" عن تينيسي ويليامز عام 1959 عصابته الإجرامية الخاصة (الشباب من أجل توم فينلي) التي حرّضها ضد خصومه السياسيين.من المؤكد أن الديماغوجيين في الديمقراطيات الحديثة يمكنهم إحداث أضرار جسيمة، حتى لو لم يتمكنوا (ولا ينوون) إلغاء الانتخابات، وإنشاء دول بوليسية، ووضع خصومهم في معسكرات الاعتقال، لكن مُعارضة صعود الشعبويين الديماغوجيين ليس كافيا، نحتاج أيضا إلى فهم الظروف التي تسمح لهذا النوع من السياسيين بالازدهار.عندما يتم تمثيل المجموعات الرئيسة في المجتمع تمثيلا كافيا من خلال السياسات الانتخابية والمؤسسات مثل النقابات العمالية والمنظمات الدينية والجماعات المحلية، نادرا ما يحظى الديماغوجيون الشعبويون بدعم شعبي كبير. عندما تشعر مجموعات كبيرة في مدينة أو ولاية أو مقاطعة أو دولة معينة بالحرمان والتجاهل من القادة التقليديين، فإنها تميل إلى اللجوء إلى الغُرباء البارزين والأقوياء الذين يدّعون أنهم يُمثلونهم، على الرغم من أنهم في الحقيقة يُمثلون أنفسهم فقط.ولسوء الحظ، في حين تترسخ الثروة والمكانة الاجتماعية بشكل متزايد في المُجتمعات الغربية الحديثة، فقد تلاشت المؤسسات الوسيطة والمجتمعات المحلية، وتراجعت الأحزاب السياسية التقليدية حيث أصبحت مجرد تسميات يمكن للأغنياء والمشاهير الإعلاميين استغلالها بسهولة، وهذا يعني أن الظروف ستظل مهيأة لمزيد من خُلفاء برلسكوني وترامب.* أستاذ الممارسة في كلية ليندون بي. جونسون للشؤون العامة بجامعة تكساس في أوستن ومؤلف كتاب «الحرب الطبقية الجديدة: إنقاذ الديمقراطية من النخبة الإدارية».
مايكل ليند - بروجيكت سنديكيت
يُمثل العديد من الديماغوجيين البارزين في الجنوب الأميركي صغار المزارعين والطبقة العاملة البيضاء ضد طبقة النبلاء الغنية