جهود الدمج العسكري المدني في الصين تستحق الانتباه!
تنشط الكيانات المدنية في أنحاء الصين لدعم الجيش وجهاز الدفاع، مع أن القيادة الصينية تزعم أن الطريق لا يزال طويلاً قبل التمكن من دمج الجهود المدنية والعسكرية، وإذا كانت هذه الجهود لا تزال غير مكتملة، فذلك يعني أن أي جهود شاملة وناجحة ستكون كارثية على الولايات المتحدة وحلفائها.
في أواخر يناير 2021، كشف تقرير صادر عن وكالة «رويترز» أن شركة «بي جي آي غروب» الصينية، وهي أكبر شركة متخصصة بعلم الجينوم في العالم، تتعاون مع الجيش الصيني وتوفر له على الأرجح بيانات وراثية خارجية لأبحاثه الخاصة. اقتبس تقرير استقصائي بقلم زاك دورفان في ديسمبر 2020 كلام مسؤول بارز سابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية حين قال: «لا تنفذ شركة «تنسنت» أو مؤسّسها بوني ما رغبات وزارة أمن الدولة بكل بساطة، لكن إذا احتاجت الأجهزة الأمنية الصينية إلى المساعدة في مرحلة معينة، فلن تتوانى الشركة عن تقديمها». تنشط الكيانات المدنية في أنحاء الصين لدعم الجيش وجهاز الدفاع، مع أن القيادة الصينية تزعم أن الطريق لا يزال طويلاً قبل التمكن من دمج الجهود المدنية والعسكرية، وإذا كانت هذه الجهود لا تزال غير مكتملة، فذلك يعني أن أي جهود شاملة وناجحة ستكون كارثية على الولايات المتحدة وحلفائها.يتكلم الخبيران المرموقان لوراند لاسكاي وإيلسا كانيا في تقريرهما الجديد عن الوقائع والخرافات المرتبطة باستراتيجية الدمج العسكري المدني في الصين، فيعتبران أن الناس في واشنطن يسيئون في معظم الأحيان فهم هذه الفكرة ويُفترض أن يركزوا على المدة التي تفصل الصين عن بلوغ أهدافها المنشودة من الدمج العسكري المدني. يطرح المحللان أفكاراً قوية ومتعددة حول تطوّر الدمج العسكري المدني والعوائق المؤسسية التي تواجهها هذه الجهود، لكنّ التركيز على نواقص هذه الاستراتيجية ليس في محلّه، ولا تتعلق المسألة الأساسية في هذا المجال بتحديد المدة التي تفصل الصين عن تحقيق أهدافها بل بحجم قدراتها الراهنة، والأسباب الكامنة وراء برنامج الدمج العسكري المدني، وطريقة تجاوب الولايات المتحدة مع هذه الخطط.تشهد القدرات العسكرية والتكنولوجية الصينية تحديثاً سريعاً وقد تجاوزت سرعته معظم التوقعات خلال العقدَين الأخيرَين، فمن وجهة نظر الولايات المتحدة، تبدأ الاستجابة الصائبة لهذه الجهود بتطبيق مقاربة حكومية شاملة ترتكز على تقييم الدمج العسكري المدني في سياق الطموحات الصينية العامة في مجال العلوم والتكنولوجيا.
هذه الاستراتيجية ليست جديدة وليست خاصة بعهد شي جين بينغ، بل يطبّقها القادة الصينيون منذ عصر ماو تسي تونغ، إذ يصعب تقييم نجاح الدمج العسكري المدني، أو حتى تعريف معنى النجاح في هذا الإطار نظراً إلى غياب الشفافية، لكن تقدما بارزا في هذا المجال تَحقّق وقد اتّضح ذلك في ملف شركة «بي جي آي». يظن خبراء من أمثال كريستيان بروز، كاتب (سلسلة القتل: الدفاع عن الولايات المتحدة في مستقبل الحرب التكنولوجية)، أن قدرات خوض الحروب في الجيش الصيني تحسنت بدرجة كبيرة على مر العقد الماضي، مما يثبت تحقيق نجاح نسبي في دمج القطاعات الدفاعية والمدنية دعماً للجيش، فقد ذكر محلل الشؤون الدفاعية، ريتشارد بيتزينغر، حديثاً أن جهود الدمج العسكري المدني التي يبذلها الرئيس شي جين بينغ تبدو طموحة أكثر من خطط أسلافه.يُعتبر الدمج العسكري المدني، رغم توسّع نطاقه، مجرّد جزء بسيط- لكنه مهم- من طموحات الصين الكبرى على المستويَين الاقتصادي والعسكري، فقد ربطت تحليلات «جامعة الدفاع الوطني» الصينية ومصادر أخرى بين الدمج العسكري المدني و«أعظم تجديد للأمة الصينية»: إنها الركيزة الأساسية لجهود التنمية التي يبذلها شي جين بينغ، حيث يتجاوز الدمج العسكري المدني بحد ذاته نطاق تحسين جهود عصرنة الجيش الصيني.تُشجّع السياسات المرتبطة بهذه الجهود على تنفيذ «تحوّل» نحو الجيش و«تحوّل» آخر نحو القطاع المدني، مما يثبت رغبة بكين في تعزيز قدرتها التنافسية في مجال العلوم والتكنولوجيا المدنية، فضلاً عن الإمكانات التكنولوجية للجيش الصيني، ولهذا السبب، تُعتبر خطط التنمية الموجّهة نحو القطاع المدني ظاهرياً، على غرار خطة «صُنِع في الصين 2025»، و«خطة الصين الخمسية الثالثة عشرة»، و«استراتيجية وآفاق التنمية المدفوعة بالابتكار»، عوامل أساسية لتقييم نظام اكتساب التكنولوجيا في الصين.على الجانب الأميركي، تدور نقاشات حول استعمال الدمج العسكري المدني في الصين كأداة سياسية، ففي مايو 2020، أصدرت إدارة ترامب إعلاناً رئاسياً يهدف إلى منع عدد من الطلاب والباحثين الصينيين من المجيء إلى الولايات المتحدة بسبب ارتباطهم بجهود الدمج العسكري المدني. رداً على إعلان مايو 2020، ذكر تقرير صادر عن «مركز الأمن والتكنولوجيا الناشئة» أن هذه الخطوة تستهدف على ما يبدو عدداً صغيراً من الجامعات الصينية. تشكّل تلك الجامعات أصلاً جزءاً من لائحة وزارة التجارة الأميركية المعنية بمحاولة اقتناء مواد أميركية الأصل دعماً لجيش التحرير الشعبي، منها تكتّل الجامعات المعروف باسم «أبناء الدفاع الوطني السبعة» الذي يخضع لإدارة وزارة الصناعة وتكنولوجيا المعلومات مباشرةً، فوفق التقديرات يمس ذلك القرار 3 إلى 5 آلاف طالب وباحث صيني في الولايات المتحدة فقط، أي ما يساوي 1% من مجموع الطلاب الصينيين الذين يدرسون في الولايات المتحدة ونحو 20% من الطلاب الصينيين المسجلين في البرامج الأميركية للعلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات سنوياً.كان قرار تعريف الدمج العسكري المدني، باعتباره «أي تحرك تقوم به جمهورية الصين الشعبية أو طرف آخر نيابةً عنها لاكتساب أو تحويل تقنيات خارجية وتكنولوجيا محورية وناشئة ودمجها مع القدرات العسكرية لجمهورية الصين الشعبية وتطوير البلد»، محاولة لتلطيف الموقف لأن البيانات الرئاسية تُكتَب في الأصل كي تتحول إلى وثائق قانونية. في عام 2018، كتب بيتر ماتيس أن معظم القوانين في الدول الديمقراطية تبقى مبهمة وتسمح للأحكام السياسية الخاصة بأداء دور مفرط في عملية صناعة القرارات، وبحسب رأيه ستُركّز موارد التحقيق في الحكومة الأميركية دوماً على التحركات غير القانونية أكثر من المجالات المبهمة. يرتكز التعريف المستعمل في إعلان مايو 2020 على هذا المبدأ تحديداً، ومن المتوقع أن تتغير التعريفات على الأرجح في أجزاء متنوعة من مجالات صناعة السياسة الأميركية الرامية إلى طرح توصيات سياسية فاعلة على أساس الدمج العسكري المدني.استعملت مجموعة من الوكالات الحكومية الأميركية تعريفاتها الخاصة للدمج العسكري المدني، على سبيل المثال، شمل تقرير وزارة الدفاع الأميركية حول القوة العسكرية الصينية في عام 2020 واحداً من أكثر التعريفات شمولية للدمج العسكري المدني في الحكومة الأميركية. يُعتبر هذا التوجه جزءاً من الممارسات السياسية النموذجية، وتستعمل هيئات حكومية أميركية متنوعة مثلاً تعريفات مختلفة للإرهاب، فتتمسك بالخصائص الأساسية نفسها لكنها تختلف على مستوى الاختصاص القضائي والفئات المستهدفة، ويُفترض أن يُستعمل النهج نفسه مع الدمج العسكري المدني.يظن البعض أن استراتيجية الدمج العسكري المدني في الصين هي مجرّد محاولة لتقليد النظام الأميركي، لكنها فكرة مغلوطة، إذ تسعى الولايات المتحدة حتماً إلى جذب الشركات المدنية نحو بنيتها العسكرية، لكنها تفعل ذلك من دون الاتكال على دولة الحزب الواحد وتُحدد حواجز قانونية واضحة لحماية الشركات الخاصة، ولا شك أن الصين حللت إطار العمل العسكري والمدني المعتمد في الولايات المتحدة وحضّرت تقارير مفصّلة عن نجاحات وإخفاقات جهود وحدة الابتكار الدفاعي في البنتاغون، ووكالة المشاريع البحثية الدفاعية المتقدمة، وشركة «سبيس إكس»، وكيانات أخرى تربط بين القطاعات العسكرية والمدنية.لكن لا تحاول الصين بالضرورة أن تقلّد الولايات المتحدة ولا تحتاج إلى فعل ذلك لمجرّد أنها تراقب التحركات الأميركية، فمن خلال محاولة الدمج بين القطاعات العسكرية والمدنية، تستطيع القيادة الصينية أن تطالب بالمعلومات والمساعدة من الشركات المضطرة للموافقة على طلبها، وقد بدأت بكين تزيد خلايا الحزب الشيوعي الصيني داخل الشركات الخاصة ظاهرياً، إذ تبدو هذه النشاطات بعيدة كل البعد عن التحركات الأميركية، وتعكس الادعاءات القائلة إن الصين تقلّد الممارسات الأميركية فكرة بالية ومغلوطة عن قدرات الصين وأهدافها، مما قد يؤدي إلى نشوء سياسة غير فاعلة في نهاية المطاف. توصّل لاسكاي وكانيا في تقريرهما إلى استنتاج يدعو صانعي السياسة الأميركية إلى تطبيق مقاربة مستهدفة جداً للتعامل مع الدمج العسكري المدني، مما يعني «مراعاة تعقيدات التعاون الدولي والمنافسة في مجالات العلوم والتكنولوجيا والابتكار». إنها نصيحة منطقية لأن استعمال مفهوم الدمج العسكري المدني بطرق فضفاضة أو عامة قد يترافق مع نتائج عكسية وسلبية على الأرجح. قدّم الطلاب والعلماء ورجال الأعمال الصينيون مساهمات قيّمة للاقتصاد والمجتمع في الولايات المتحدة ويُفترض أن يتمكنوا من متابعة جهودهم.لكن من الملاحظ أن الحكومة الأميركية أصبحت بصدد تطبيق مقاربة مستهدفة ومختلفة ومبنية على الأدلة، فبدأ المعنيون يفهمون هذا الموضوع ويحسّنون طريقة التعامل معه في جميع أقسام الحكومة الأميركية، كذلك يُعتبر الدمج العسكري المدني هدفاً متبدّلاً، مما يعني ضرورة أن يتابع المسؤولون داخل الحكومة وخارجها الاطلاع على الديناميات المتغيرة في الاستراتيجية المعمول بها ومراقبة التطور الحاصل. سيتمكن صانعو السياسة الأميركية بهذه الطريقة من فهم الأهداف والنتائج المنشودة من استخدام الدمج العسكري المدني كأداة سياسية.
إيميلي واينستاين – فورين بوليسي
الخبيران المرموقان لوراند لاسكاي وإيلسا كانيا يطرحان أفكاراً قوية ومتعددة حول تطوّر الدمج العسكري المدني والعوائق المؤسسية التي تواجهها هذه الجهود
القدرات العسكرية والتكنولوجية الصينية تشهد تحديثاً سريعاً تجاوزت سرعته معظم التوقعات خلال العقدَين الأخيرَين
القدرات العسكرية والتكنولوجية الصينية تشهد تحديثاً سريعاً تجاوزت سرعته معظم التوقعات خلال العقدَين الأخيرَين