منذ أن بدأ الروس الاحتجاج على سجن زعيم المعارضة اليكسي نافالني، يبدو أن قوات الأمن لديها تفويض مطلق باعتقال المتظاهرين، حيث اعتقلت تلك القوات الآلاف، إذ إن قيام الروس بأي تصرف حتى لو كان صوت أبواق سياراتهم تضامنا مع المحتجين يعني أنهم يخاطرون بعواقب قد تطولهم شخصيا، والرد الرسمي على تلك الاحتجاجات يتجاوز قمع الكرملين السابق، إذاً إنها الحرب. يعتبر نافالني معارضا بارزا للرئيس فلاديمير بوتين منذ فترة طويلة ولكن اعتقاله- فور عودته إلى موسكو من ألمانيا حيث أمضى أشهرا وهو يتعالج من عملية تسميم (من المفترض) أنها تمت بأوامر من الكرملين– حوّله إلى ما يشبه سلطة أخلاقية كذلك.
والآن وبعد أن تم الحكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات تقريبا– والتي يمكن تمديدها إذا قررت السلطات توجيه اتهامات له بارتكاب جرائم إضافية- فإن المكانة الأخلاقية لنافالني أصبحت تشبه مكانه المنشقين من أواخر العهد السوفياتي مثل أندريه ساخاروف، فالروس الذين لم يتصوروا منذ أسابيع قليلة ماضية أنهم سيخاطرون بالاعتقال بسبب الحتمية الأخلاقية أصبحوا يتظاهرون في الشوارع كما أن العديد من الناس الذين بقوا في المنازل يتابعون بتعاطف أخبار الاحتجاجات ومحنة نافالني.بالطبع واجه نظام بوتين احتجاجات في السابق، ففي سنة 2011 تدفق الروس إلى الشوارع للاحتجاج على نتائج الانتخابات التشريعية، حيث استمرت التظاهرات حتى النصف الأول من سنة 2012، ولكن رد الكرملين كان مختلفا تماما آنذاك، ففي حين واجه بعض المحتجين تهما جنائية، فإنه لم يتم سحق المتظاهرين بمثل هذا الأسلوب القاسي، حتى أنه كانت هناك إشاعات في أواخر سنة 2011 بأن بوتين كان على أهبة الاستعداد للانخراط في حوار حقيقي مع المجتمع المدني مما أنعش الآمال بأنه كان يائسا، حتى أن نظامه كان على حافة الانهيار.الانهيار لم يحصل، وهذه المرة لم يعط الكرملين أي تلميح بأنه سيتفاوض مع المتظاهرين والحرس يطوقون الأحياء التي يوجد فيها الكرملين، وجهاز الأمن الفدرالي، كما قامت الشرطة والحرس الوطني "روسجيارديا" باعتقال أعداد كبيرة جدا من المحتجين لدرجة أن مراكز الاعتقال أصبحت مكتظة بالمحتجين، وبالكاد تقدر على استيعابهم.لكن بالنسبة لأولئك الذين يرغبون في سقوط بوتين، قد تكون هذه نتيجة واعدة أكثر مما حدث قبل عقد من الزمان، وذلك لأنها تظهر أن الرئيس قد أصبح في وضع دفاعي، حيث أصبح الكرملين وكأنه مخبأ، علما أن بوتين الذي كان يتجنب تاريخيا الرد على الاتهامات الموجهة ضده بالفساد، اضطر لنفي أنه يمتلك قصرا فخما على البحر الأسود، والذي أظهره نافالني في مقطع فيديو انتشر سريعا مؤخرا.فهذا التحول يعكس تطورات حصلت في روسيا منذ ضم شبه جزيرة القرم قبل سبع سنوات فالعقوبات الغربية التي تم فرضها ردا على ذلك التحرك قد أدت وبشكل تدريجي إلى تآكل الاقتصاد الروسي، ونظرا لأن تدخل الدولة في الاقتصاد يعد أمرا أساسيا من أجل المحافظة على نظام سلطوي فسرعان ما تبع ذلك التآكل السياسي، فمرحبا بكم في أواخر الاتحاد السوفياتي.أما في روسيا اليوم فلقد أصبحت السياسة الاقتصادية بدائية بشكل متزايد: جمع الأموال من دافعي الضرائب ومن ثم إنفاقها على ما يريده بوتين وأعوانه، مثل تطبيق القانون والبيروقراطية (مصدر رئيس للمحسوبية)، وإن هذا يعني أجهزة الأمن القوية وشرطة الشغب الذين يرتدون الخوذ السوداء والذين يطاردون الشباب في الشوارع ويضربونهم بالهراوات، إن هذا يعني القضاة الذين يصدرون أي أحكام يريدها الكرملين كما يعني كذلك آلة بيروقراطية ضحمة بملايين الموظفين تكرر بدون تفكير الطرح الذي يتبناه الكرملين (على سبيل المثال تم تسميم نافالني من قبل الغرب).يبدو أن الأقل أهمية هو وجود اقتصاد فعال، فمنذ أن غزت روسيا أوكرانيا فقد المستثمرون من القطاع الخاص والأجانب الاهتمام، ونظرا لأن النمو الاقتصادي فوق الصفر بصعوبة، فلقد انخفض الدخل الحقيقي بنسبة 10.6% منذ سنة 2014. لقد أعلنت الحكومة الروسية وجود انخفاض بنسبة 3.1% في الناتج المحلي الإجمالي سنة 2020 ولكن هذه النسبة حسب الروبل والروبل يضعف تدريجيا وبشكل مطرد وبالقياس بالدولار الأميركي، كان الناتج المحلي الإجمالي لروسيا في عام 2020 أقل بنسبة 10% منه في عام 2019 .يقول الاقتصاديون إن الروبل مقوم بأقل من قيمته الحقيقية بسبب "عوامل سياسية"، ولكن تلك العوامل هي عوامل من صنع الكرملين، وإن رفض بوتين المطلق ليس لإرساء الديمقراطية وتحرير الاقتصاد فقط، بل أيضا لأي محاولة للتحديث هو الذي أدى الى تركيع الاقتصاد.وليس الاقتصاد الذي يعاني فقط فالنظام القضائي الروسي لم يعد يتمتع بالمصداقية والجامعات قد بدأت تفقد حيويتها وقوتها الفكرية في حين يكبح أعضاء هيئة التدريس جماح أنفسهم ويتم طرد النشطاء من الطلاب وحتى بيروقراطية الدولة في حالة تدهور فما نفع وزارة الخارجية إن لم تكن قادرة على إجراء مفاوضات مثمرة؟ وهل دورها يقتصر على إعداد دعاية فجة على النمط الستاليني؟إن هذا التفسخ المؤسساتي يعكس كيف أصبح نظام بوتين نظاما عفا عليه الزمن من النواحي الأخلاقية والسياسية والتقنية. لقد أصبحت صور غينريخ ياغودا مدير المفوضية الشعبية للشؤون الداخلية (الشرطة السرية في الاتحاد السوفياتي) معلقة في مخافر الشرطة، وإن هناك خططا لوضع تمثال للافرينتي بيريا- الشخصية الأكثر إثارة للرعب في التاريخ الروسي للقرن العشرين بعد ستالين- في قاعة المعارض التابعة لمؤسسة روساتوم الحكومية للطاقة النووية.وفي حين تتمسك الدولة بالماضي، أصبح المجتمع الروسي أكثر حداثة وهنا يكمن الصراع الحقيقي في روسيا اليوم حيث تتنافس القوى التي عفا عليها الزمن مع قوى الحداثة من اجل الظفر بقلوب وعقول الروس العاديين وفي هذه الحرب لا يوجد تنازلات فنشاط المعارضة يتم التعامل معه كمخالفة جنائية، كما يتم تصنيف المنظمات غير الربحية والإعلام المستقل على انهم عملاء أجانب.تعتقد السلطات انه بإرسال نافالني للسجن سيكون بإمكانها قمع نفوذه، ولكن جاءت النتيجة عكسية، حيث أدى ذلك الى تعزيز شعبيته، حتى بين أولئك الذين لم يعجبوا به كثيرا في السابق. لقد أصبح نافالني سلطة أخلاقية للعديد من الناس، حيث اجتذب اهتماما كبيرا به وبالاحتجاجات، وفي الوقت نفسه تمكن من فضح وحشية السلطات، ولكن مع ذلك انخفضت شعبيته، وذلك نظرا لأن أنصار بوتين ينظرون اليه كتهديد حقيقي للاستقرار.لكن المسح نفسه يظهر أن نافالني يتمتع بدعم كبير بين الشباب وخصوصا أولئك الذين ينتمون للفئة العمرية من 18 الى 24 سنة أي بعبارة أخرى بدأ بوتين في خسارة معركة الأجيال القادمة لمصلحة نافالني.لقد حولت الاحتجاجات السياسة في روسيا الى قضية ثنائية فإما أنت مع نافالني أو مع بوتين وهذا صراع لم يعد بوتين واثقا بأنه قادر على الفوز به.* زميل تنفيذي ورئيس برنامج السياسة المحلية والمؤسسات السياسية الروسية في مركز كارنيغي بموسكو.
مقالات
بوتين يخسر معركة مستقبل روسيا
16-02-2021