للمرة الأولى منذ أكثر من عشرين سنة، لم تعد باكستان على رأس أولويات السياسة الخارجية بنظر الإدارة الأميركية الجديدة، فمنذ عام 2001، أصبحت باكستان محور الحرب على الإرهاب واعتُبِرت جزءاً أساسياً من التدخل العسكري الأميركي في أفغانستان. لكن لم يعد هذا الظرف الأمني يُحرّك السياسة الخارجية الأميركية اليوم، بل يرتكز المنطق الاستراتيجي الأميركي الراهن على تقليص الانتشار العسكري الأميركي في المنطقة، وبدل مكافحة الإرهاب من المتوقع أن تُوجّه المنافسة بين القوى العظمى تحركات الولايات المتحدة وأن يصبّ التركيز في المقام الأول على التحكم بعلاقة واشنطن مع الصين، وتتراجع مرتبة باكستان على لائحة الأولويات الأميركية أيضاً بسبب مشاكل أكثر إلحاحاً مثل التغير المناخي، ووباء كورونا، والتحديات الاقتصادية في الولايات المتحدة.هذا الواقع الجديد يطرح سؤالاً مهماً حول رأي الولايات المتحدة بعلاقتها مع باكستان، إذ تشمل باكستان أكثر من 200 مليون نسمة، وتقع على فوهة الخليج العربي من الناحية الجيوستراتيجية، وتَحِدّ إيران والهند والصين، ويُعتبر هذا البلد محورياً للحفاظ على استقرار المنطقة المجاورة وهو جسر عبور أساسي نحو آسيا الوسطى، وهذه الوقائع تثبت أهمية باكستان لتحقيق المصالح الأميركية على مستوى الاقتصاد والأمن في غرب آسيا وجنوبها.
وفي حين تُحضّر إدارة بايدن استراتيجية الأمن القومي، يُفترض أن تطرح سياسة جديدة لباكستان وتجعلها جزءاً من مصالحها الاستراتيجية الواسعة في غرب آسيا، ويجب أن تطلق الإدارة الجديدة تواصلاً دبلوماسياً مع إسلام أباد لتعزيز التعاون حول الوقائع الجيوسياسية والفرص الاقتصادية، حيث تملك واشنطن فرصة واعدة في هذا المجال، وتشهد حسابات باكستان الاستراتيجية تغيرات معينة أيضاً، وقد اتضح ذلك عبر دعمها لعملية السلام التي تقودها الولايات المتحدة في أفغانستان، وأدت الضغوط الاقتصادية والتغيرات الحاصلة في نمط التحالفات الباكستانية إلى تسريع هذا التحول.
تبدّل واضح في حسابات باكستان الاستراتيجية
لا تستطيع الولايات المتحدة أن تضاهي الاستثمارات الاقتصادية الصينية في باكستان أو المنطقة، لكنها قد تؤثر في الوجهة التي تتخذها باكستان، إذ أصبح هذا الاحتمال وارداً اليوم أكثر من أي وقت مضى في التاريخ الحديث نظراً إلى حصول تغيرات بارزة في الأسس التي وجّهت الحسابات الاستراتيجية الباكستانية لوقتٍ طويل.أولاً، لم تعد الولايات المتحدة تُركّز على ملف الإرهاب،م ما يعني أنها لا تهتم بباكستان اليوم بقدر ما كانت تفعل بعد هجوم 11 سبتمبر، وتسعى باكستان من جهتها إلى إيجاد طرق جديدة للتواصل مع الولايات المتحدة، إذ اتّضحت هذه النزعة في أعلى مراتب الجيش والقيادة المدنية في باكستان، وهي تشتق من فكرة براغماتية شائعة مفادها أن البلد لم يعد يستطيع الاتكال على اهتمام واشنطن به تزامناً مع تراجع الوجود الأميركي في أفغانستان.طرحت باكستان مقاربة جديدة ترتكز على الأمن الاقتصادي لمحاولة تعزيز التعاون مع الولايات المتحدة في ملفات التغير المناخي والتكنولوجيا ومجموعة من المسائل غير الأمنية الأخرى، حيث يتطلب تحويل هذه المقاربة الجديدة إلى واقع ملموس جهوداً شاقة لأن باكستان تعجز عن التمسك بوضع اقتصادي مستقر.يرتبط هذا العامل بالتغيير الجوهري الثاني: الاقتصاد، حيث يواجه البلد وضعاً صعباً بسبب تراجع المساعدات الخارجية، وانخفاض التحويلات المالية من العمال في الخارج نتيجة انهيار الاقتصاد في دول مجلس التعاون الخليجي، وتراجع صادرات الأنسجة والصناعات الباكستانية. اعتادت باكستان منذ وقت طويل على اقتراض المال لتمويل ديونها، لكن لم يعد هذا الخيار ممكناً وبدأت مُهَل سداد الديون قصيرة أو متوسطة الأجل تتقارب، فباكستان تحتاج إلى مساعدة دولية ومن الأفضل أن تكون على شكل قروض ومساعدات اقتصادية، ويجب أن تزيد صادراتها أيضاً لتقوية اقتصادها، وفي ظل هذه الظروف، يُفترض أن تدرك الولايات المتحدة أن باكستان ستصبح أكثر انفتاحاً على تقديم التنازلات السياسية التي تُحسّن وضعها في هذه المجالات.ثالثاً، لم تعد المملكة العربية السعودية تخدم العمق الاستراتيجي الباكستاني، فبعد خمسة عقود تقريباً من العلاقات الوثيقة، بدأت السعودية تُبعد نفسها بكل وضوح عن باكستان، فألغت في السنة الماضية قرضاً بقيمة ثلاثة مليارات دولار بعدما تذمرت إسلام أباد من غياب الدعم السعودي لها تزامناً مع القمع الهندي في كشمير.هذا التحول ليس شخصياً، بل إنه يشير إلى حصول تغيير جوهري رابع يتعلق بإنهاء السياسة الخارجية الإسلامية التي كانت تربط بين باكستان والسعودية ودول الخليج العربي. بدأت السعودية تنسحب من سياستها الخارجية الإسلامية وقد اتضحت هذه النزعة في موقفها من الهند، إذ يسعى ولي العهد صراحةً إلى بناء روابط اقتصادية واستراتيجية مع هذا البلد، وفي الوقت نفسه، لم تقدّم السعودية أي مساعدة إلى باكستان خلال أزمة كشمير مع الهند، وتشعر باكستان بأنها معزولة.خامساً، بدأ المعيار الذي يحكم العلاقات الهندية الباكستانية يتغير، وفي حين تعمد السعودية والصين والولايات المتحدة إلى فصل الصراع القائم بين الهند وباكستان عن علاقاتها مع البلدين، ستضطر إسلام أباد لإعادة تقييم طريقة تواصلها مع شركائها التقليديين بناءً على الميزة الأساسية في علاقاتها الخارجية مع عدد كبير من الدول المنافسة مع الهند.نتيجة هذه التطورات الخمسة، تغيّرت حسابات باكستان الاستراتيجية، فبدأ البلد يتخبط ولم يعد يعرف مكانته أو وجهته المستقبلية. تطرح هذه التحولات أسئلة جدية على صانعي السياسة: ما معنى نهاية معيار السياسة الخارجية الإسلامية بالنسبة إلى حركات التطرف الباكستانية التي حظيت لوقتٍ طويل بدعم ممولين من دول الخليج؟ وما معنى ابتعاد الصين والسعودية عن الاضطرابات الهندية الباكستانية حين يوشك البلدان المجاوران على خوض حرب نووية؟مقاربة جديدة
من دون التأثير السعودي على السياسة الخارجية الباكستانية وفي ظل غياب أي ضمانات غير مشروطة كي تتلقى باكستان الدعم الصيني، ستحصل الولايات المتحدة على فرصة نادرة لتجديد تواصلها مع شريكتها القديمة، ومن الأفضل أن يصبّ التركيز على الحاجة المُلحّة إلى إرساء السلام في أفغانستان، لكن يجب أن تكون الظروف الميدانية في أفغانستان وأماكن أخرى من المنطقة مستقرة للحفاظ على السلام بعد المفاوضات الدبلوماسية والاتفاقيات المبرمة بين النُخَب السياسية. إذا تابعت الولايات المتحدة ربط استقرار المنطقة بباكستان، فستضطر للقيام باستثمارات أكبر بكثير هناك وبما بتجاوز المصالح الأمنية.أثبتت العمليات التجارية بين الولايات المتحدة والشركات الأجنبية حول العالم أن الفرص التي تقدّمها استثمارات القطاع الخاص تدفع الدول إلى تبنّي إصلاحات اقتصادية أكثر جدّية. قد تسمح الالتزامات التجارية المباشرة التي تحمل لمسة حكومية بسيطة بتسهيل المبادرات وتسريعها أكثر مما تفعل الإجراءات البيروقراطية الواسعة.قد تصبح باكستان معقلاً مثالياً لإعادة التصدير بفضل اتفاقها التجاري مع الصين مثلاً، إذ تستطيع الشركات الأميركية أن تبني منشآتها الصناعية في باكستان وتزيد قيمة السلع الأميركية هناك، مما يسمح بوصول تلك السلع إلى السوق الصيني باعتبارها صادرات باكستانية، فثمة مجال أيضاً كي تُشرِك الولايات المتحدة القطاع الخاص الباكستاني في أفغانستان، حيث تسعى شركات البناء والمواد الاستهلاكية الباكستانية منذ الآن إلى الاستفادة من منافع السلام في أفغانستان، وتأمل إسلام أباد أيضاً تصدير المواد الغذائية والزراعية إلى الطرف الآخر من الحدود. قد تكون الاستثمارات والتجارة إذاً أداة فاعلة لترسيخ العلاقات بين الولايات المتحدة وباكستان في المجال الاقتصادي.في نهاية المطاف، يبقى الشعب أهم رصيد يملكه أي بلد، إذ تتضح منافع التبادلات المستمرة بين الشعوب عبر مئات الأشخاص الذين يتلقون منحة «فولبرايت» للطلاب الباكستانيين، والجاليات الباكستانية الأميركية الحيوية، ووفرة الشركات الأميركية الناشطة في سوق الاستهلاك الذي يشهد نمواً غير مسبوق في باكستان، فمن المعروف أن ثلثَي الشعب الباكستاني هو تحت عمر الثلاثين وتشمل باكستان سوقاً قابلاً للازدهار إذا كانت بيئته التنظيمية مناسبة.لكن لن تكون الاستفادة من هذه القدرات مهمة سهلة، فلا مفر من ظهور مشاكل في هذه العلاقة بسبب أحداث مثل إطلاق سراح المُدان بقتل الصحافي الأميركي دانيال بيرل حديثاً، فالخطوة الأولى تقضي إذاً باستئناف الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وباكستان. تريد باكستان أن تعرف المقاربة التي ستتخذها إدارة بايدن للتعامل معها، وفي المقابل ترغب الولايات المتحدة في الحفاظ على علاقتها مع باكستان بما يضمن حماية مصالحها في المنطقة، وقد يشير إطار عمل رسمي إلى التزام عام بالمسائل التي تشكّل محور هذه العلاقة الثنائية، ويضيف درجة من الامتيازات لتحفيز جميع الأطراف المعنية ووضع آلية تسمح بمواصلة الإشراف على الوضع وعقد التزامات لمتابعة التطورات المتلاحقة.تملك الولايات المتحدة فرصة قيّمة كي تتجاوز تاريخ العلاقات الأميركية الباكستانية المرير، حيث شكّلت الضرورات الاستراتيجية في إسلام أباد وواشنطن فرصة نادرة سابقاً، وقد تخدم المصالح الإقليمية الأميركية بطريقة إيجابية الآن، وتشكّل حافزاً لإحداث تغيير حقيقي في باكستان شرط استغلالها بالشكل المناسب.