لم يتغيّر الوضع كثيراً على الحدود السورية خلال العامين الماضيين، وتعارض روسيا وشركاؤها في «عملية أستانا»، وإيران وتركيا، أي جهود رسمية لتقسيم البلاد أو ترسيخ وجود كيان كردي منفصل في الشمال، وحتى لو انسحبت القوات الأميركية بالكامل من الشرق، فستبقى البلاد في أيدي «ثلاثية أستانا»، لذلك ليس أمام الأسد خيار في هذا الشأن.من المؤكد أن استراتيجية النظام السوري لمكافحة التمرد قد أتت بثمارها داخل البلاد، فقوات بشار الأسد تسيطر الآن على ثلثي الأراضي السورية، من بينها جميع المدن الرئيسة الست (دمشق وحلب وحمص وحماة واللاذقية وطرطوس ودرعا ودير الزور)، بالإضافة إلى 12 مليون نسمة من أصل عدد السكان الإجمــــــالي المقــــــدر بـ17 مليـــــــون (ما زال 7 ملايين سوري يعيشون في الخارج كلاجئين). وهذا تحوّل كامل عن وضع النظام السيئ في ربيع 2013 عندما كانت قوات الأسد تسيطر على خُمس مساحة البلاد فقط.
ومع ذلك، تُعتبر الحدود رمز السيادة بلا منازع، ولا يزال سجل أداء النظام خالياً تقريباً على هذا الصعيد، ويسيطر الجيش السوري على 15 في المئة فقط من الحدود البرية الدولية للبلاد، في حين تتقاسم جهات فاعلة أجنبية الحدود المتبقية.
الغرب والجنوب: سيطرة وهمية للنظام
يسيطر حالياً «حزب الله» وميليشيات شيعية أخرى مدعومة من إيران على نحو 20 في المئة من حدود البلاد، وعلى الرغم من أن سلطات الجمارك السورية هي المسؤولة رسمياً عن إدارة المعابر مع العراق (البوكمال)، والأردن (نصيب)، ولبنان (العريضة وجديدة يابوس وجوسية والدبوسية)، فإن السيطرة الحقيقية تكمن في الواقع في أماكن أخرى، ويحتل «حزب الله» الحدود اللبنانية، وأقام قواعده على الجانب السوري (الزبداني والقصير) التي يسيطر منها على منطقة القلمون الجبلية، وبالمثل، تدير الميليشيات الشيعية العراقية كلا جانبي الحدود من البوكمال إلى التنف، وتمتد قبضة القوات الموالية لإيران أيضاً إلى العديد من المطارات العسكرية السورية، والتي غالباً ما تكون بمثابة وسيلة لنقل الأسلحة الإيرانية الموجهة إلى «حزب الله» وخط المواجهة مع إسرائيل في مرتفعات الجولان، ويكشف هذا الوضع عن اندماج سوريا الكامل في المحور الإيراني.بعد استعادة الجيش السوري سيطرته على الجنوب في يونيو 2018، عاد إلى الحدود الأردنية وأعاد فتح معبر «نصيب» في جو احتفالي كبير، لكن حركة المرور لا تزال محدودة جداً حالياً، ووجود الجيش في محافظة درعا سطحي، ولإخماد المقاومة المتنامية في المنطقة بسرعة، اضطر النظام إلى توقيع اتفاقيات مصالحة بوساطة روسية، تاركاً الفصائل الثائرة المحلية تتمتع باستقلالية مؤقتة وحق الاحتفاظ بأسلحة خفيفة، وحافظ الثوار السابقون أيضاً على روابط قوية عبر الحدود عن طريق الحدود الأردنية، مما يمنحهم مصدراً محتملاً للدعم اللوجستي في حالة نشوب صراع جديد (وفي غضون ذلك الحصول على دخل مربح للغاية من عمليات التهريب).الشمال: وكلاء الأتراك والقوات الروسية
في عام 2013، بدأت تركيا في بناء جدار حدودي في منطقة القامشلي، معقل الأكراد السوريين، ومنذ ذلك الحين وسّعت هذا الحاجز على طول الحدود الشمالية بأكملها، وكان أحد الأهداف منع التسلل: أولاً من قبل «حزب العمال الكردستاني»، وهي جماعة تعتبرها أنقرة عدوّها الداخلي الرئيسي والمنظمة الأم للفصائل الكردية التي تسيطر على أجزاء كبيرة من شمال سورية؛ ولاحقاً من قبل تنظيم «الدولة الإسلامية»، بعد موجة من الهجمات الإرهابية الجهادية التي هزت تركيا في عام 2015.وكان الهدف الآخر هو منع تدفق المزيد من اللاجئين السوريين إلى تركيا، التي تستضيف بالفعل 3.6 ملايين لاجئ، ولا يزال العبور الفردي ممكناً عبر السلالم والأنفاق، لكن الشرطة التركية توقف معظم هؤلاء المهاجرين وتعيدهم بعنف إلى سورية.وفي الواقع، إن الجزء الوحيد من الحدود الشمالية الخاضعة لسيطرة الأسد هو معبر «كسب» شمال اللاذقية، وحتى هذا المعبر تم إغلاقه من الجانب التركي منذ عام 2012، ومن «كسب» إلى أقصى الحدود الشرقية، يتم السيطرة على الجانب السوري من الحدود تباعاً على النحو التالي:• المناطق حتى خربة الجوز من قبل الثوار التركمان الموالين لتركيا• المناطق بين جسر الشغور وباب الهوى من قبل الجماعة الجهادية العربية السنية «هيئة تحرير الشام»• المناطق حتى نهر الفرات من قبل الثوار الموالين لتركيا المعروفين بـ «الجيش الوطني السوري»• المناطق حول كوباني من قبل الجيش الروسي و«قوات سورية الديمقراطية» التي يقودها الأكراد• المناطق بين تل أبيض ورأس العين من قبل «الجيش الوطني السوري»• المناطق من رأس العين حتى نهر دجلة من قبل الجيش الروسي و«قوات سورية الديمقراطية»في أكتوبر 2019، شنت تركيا هجوماً عبر الحدود في الشمال، مما دفع القوات الأميركية إلى الانسحاب من معظم الأراضي في «الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية» التي يسيطر عليها الأكراد، وبعد ذلك، سيطرت روسيا على مناطق الاتصال بين «قوات سورية الديمقراطية» وتركيا ومناصريها في «الجيش الوطني السوري» وفقاً لاتفاق وقف إطلاق النار المبرم في سوتشي في ذلك الشهر نفسه. وحلّت الدوريات الروسية-التركية محل الدوريات الأميركية-التركية على خطوط التماس هذه لضمان انسحاب «قوات سورية الديمقراطية» من منطقة الحدود التركية، وعلى الرغم من أنه قد طُلب من قوات الأسد نشر بضع مئات من الجنود على طول تلك الحدود، فإن وجود هذه القوات رمزي فقط، ومنذ ذلك الحين، انطلقت الدوريات الروسية باتجاه الشرق، في محاولة لإقامة موقع في مدينة المالكية (ديريك باللغة الكردية) والسيطرة على المعبر مع العراق في سيمالكا-فيشخابور، وهو طريق الإمداد البري الوحيد المتاح للقوات الأميركية في شمال شرق سورية.معبر حدودي واحد
لا تزال كل المعابر الشمالية إلى تركيا مغلقة، كما يمنع الجدار الحدودي أنشطة التهريب، وهذا الأمر يجعل معبر سيمالكا-فيشخابور النافذة الدولية الوحيدة أمام «الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية»، وعلى الجانب العراقي من الحدود الشرقية لسورية، كانت الميليشيات الشيعية مسؤولة عن معظم المناطق منذ خريف 2017، عندما فقدت «حكومة إقليم كردستان» سيطرتها على الأراضي المتنازع عليها بين كركوك وسنجار. ولكن الأهم من ذلك، لم تشمل هذه الأراضي المفقودة فيشخابور. وتسيطر «قوات سورية الديمقراطية» على الجانب السوري من الحدود بدعم من القوات الأميركية، لكن الوكلاء الإيرانيين منعوها ومنعوا غيرها من الجهات الفاعلة من استخدام أي معابر أخرى، وذلك جزئياً بمساعدة التعاون الدبلوماسي الروسي.على سبيل المثال، تم إغلاق معبر اليعربية الحدودي الرسمي أمام المساعدات الإنسانية للأمم المتحدة منذ أن استخدمت روسيا حق النقض ضد تجديدها في مجلس الأمن الدولي في ديسمبر 2019، ومن بين التداعيات الأخرى لهذا القرار هو أنه يجب أولاً إرسال جميع مساعدات الأمم المتحدة إلى «الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية» بالكامل، إلى دمشق قبل أن يتم نقلها إلى الشمال الشرقي من البلاد.لذلك يُعتبر معبر سيمالكا-فيشخابور أمراً حيوياً للبقاء السياسي والاقتصادي للمنطقة التي تتمتع بالحكم الذاتي، حيث يمثل نقطة الدخول الوحيدة للمنظمات غير الحكومية العديدة التي تعمل فيها وتوفر دعماً أساسياً للسكان المحليين. ومع ذلك، لا تزال الحكومة السورية تَعتبر الدخول عبر هذا المعبر جريمة يُعاقب عليها بالسجن لفترة تصل إلى خمس سنوات، لذلك يجب أن تحرص المنظمات غير الحكومية التي تدخل منطقة «الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية» من العراق على ألا تقوم بأي أنشطة في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، فأي منظمة غير حكومية تتقدم بطلب للحصول على تفويض من «الهلال الأحمر العربي» السوري من أجل العمل في مناطق النظام، عليها أن تتعهد بعدم تنفيذ أي أنشطة تتضمن العبور إلى «الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية» من الدول المجاورة، ومن المحتمل أن يكون تعنّت النظام بشأن القضايا الإنسانية هو طريقة الأسد لمحاولة إعادة تأكيد سيطرته على جانب واحد على الأقل من السيادة الحدودية. في غضون ذلك، لا تزال الدوريات الروسية تحاول الوصول إلى سيمالكا واختبار مقاومة «قوات سوريا الديمقراطية»، وقد هددت الميليشيات العراقية مراراً وتكراراً بالاستيلاء على فيشخابور.مستقبل السيادة المحدودة
فشل نظام الأسد في إعادة بسط سيطرته على سماء سورية ومياهها الإقليمية، بالإضافة إلى تنازله عن معظم حدوده البرية لروسيا وتركيا وإيران والولايات المتحدة، وتخضع المناطق البحرية للبلاد للمراقبة من قبل قوات من القاعدة الروسية في طرطوس، ويتم التحكم في معظم مجالها الجوي من القاعدة الروسية في حميميم، وتعتمد إيران على الأصول الجوية الروسية للحماية من الضربات الإسرائيلية، وهي ضمانة محدودة في أحسن الأحوال، لأن روسيا لا تحمي عمليات طهران الأكثر استفزازاً مثل نقل الصواريخ إلى «حزب الله» أو تعزيز مواقعه في الجولان. ومن جانبها، تحتفظ الولايات المتحدة بممر جوي بين نهر الخابور والحدود العراقية، حيث توجد آخر قواتها البرية.وعلى الرغم من التصريحات العلنية التي تدلي بها دمشق بين الحين والآخر حول استعادة سيطرتها على كافة الأراضي السورية، فإنها تبدو راضية في الخضوع لهذه اللعبة من القوى الأجنبية وبسط سيادتها المحدودة على عدد أقل من الأراضي على الأمد الطويل، وحتى لو انسحبت القوات الأميركية بالكامل من الشرق، فستبقى البلاد في أيدي «ثلاثية أستانا»، لذلك ليس أمام الأسد خيار في هذا الشأن.