في 5 فبراير، صوّت أعضاء "منتدى الحوار السياسي الليبي"، الذي تقوده الأمم المتحدة على قيادة مؤقّتة لمجلسه التنفيذي، فاختاروا محمد يونس المنفي رئيساً للمجلس الرئاسي الليبي، وعبدالحميد محمد دبيبة في منصب رئيس الوزراء للفترة الانتقالية. كانت نتيجة التصويت في المنتدى المؤلف من 74 عضواً مفاجئة جداً للجهات الخارجية التي تدعم عملية السلام الليبية، بما في ذلك روسيا. توقعت موسكو أن تفوز لائحة وافقت عليها مع أنقرة والقاهرة، بقيادة وزير الداخلية فتحي باشاغا، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح.
الأسماء المفضلة
مع ذلك، لم يتغير شيء بالنسبة إلى روسيا وليبيا بعد التصويت. لاتزال موسكو تتوقع أن تحافظ الأسماء المفضلة لديها على مناصبها في الحكومة الانتقالية الليبية الجديدة (حتى أنها قد تتسلم حقائب وزارية فيها) غداة الانتخابات الوطنية المقررة في 24 ديسمبر 2021. قبل أسبوع من تصويت "منتدى الحوار السياسي الليبي"، كان لافتاً أن تستقبل موسكو وفوداً من الأطراف المتناحرة من غرب البلد وشرقه.في 29 يناير، اجتمع أحمد معيتيق، نائب رئيس حكومة الوفاق الوطني في طرابلس، مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في موسكو. وقبل يوم على اجتماعهما، أجرى معيتيق أيضاً محادثات مع وزير الصناعة والتجارة الروسي دينيس مانتوروف.حكومة شرق ليبيا
في الوقت نفسه، حضر وفد من حكومة شرق ليبيا برئاسة وزير الخارجية والتعاون الدولي، عبدالهادي الحويج، إلى موسكو، واجتمع مع نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف. تكلم الحويج مع الصحيفة الروسية "كوميرسانت" حول الجانب الاقتصادي من المحادثات في موسكو، وأعلن أن الطرفَين تناقشا حول بناء سكك حديد ومشاريع الكهرباء والتعليم والصحة، بما في ذلك احتمال تزويد ليبيا بلقاح "سبوتنيك V" المضاد لفيروس كورونا.مجلس النواب الليبي
في 25 يناير، استقبل بوغدانوف في موسكو عبدالناصر بن نافع، أحد أعضاء مجلس النواب الليبي (يُعرَف أيضاً باسم برلمان طبرق).تظن موسكو أن واشنطن نظّمت هذه المرحلة من عملية السلام في ليبيا، بما يخدم مصالحها الخاصة، حين كانت الدبلوماسية الأميركية ستيفاني ويليامز الرئيسة المؤقّتة لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا. في الوقت نفسه، لا تظن روسيا أن معارضة خطوات الأمم المتحدة صراحةً ستكون مقاربة عملية، وهو موقف مفيد للكرملين بدرجة معينة.فشل التسوية السياسية
يتوقع الكرملين أن يحتفظ عدد من الشخصيات التي تواصل معها الجانب الروسي بمناصبه ونفوذه في ليبيا، حتى ان موسكو التي تستقبل ممثلين من غرب البلاد وشرقها قد تبدي استعدادها لدعم صيغة بديلة وغير رسمية للحوار الليبي الداخلي في حال فشلت المرحلة الراهنة من التسوية السياسية في ليبيا. يمكن تنفيذ هذه الصيغة خلال زيارة مشتركة للوفود من شرق البلد وغربه إلى موسكو.يُعتبر معيتيق من أبرز السياسيين الذين تتعامل معهم موسكو في غرب ليبيا، وهي تتكل عليه لتحقيق مصالحها. لاتزال فرص فوزه بحقيبة وزارية في الحكومة الجديدة قائمة، وقد يبقى على الأرجح في أعلى مراتب السلطة بعد انتخابات ديسمبر. زار معيتيق العاصمة الروسية في مناسبات متكررة منذ عام 2017، وقد قصد موسكو أيضاً مع وزير الخارجية في حكومة الوفاق الوطني، محمد سيالة، في يونيو 2020.صادرات النفط الليبي
في سبتمبر 2020، عقد معيتيق مفاوضات مهمة في مدينة "سوتشي"، حيث وقّع على اتفاق مع أحد أبناء خليفة حفتر، الزعيم البارز في شرق ليبيا، لتحرير صادرات النفط الليبي. كان ذلك الحدث مفصلياً، وقد أكد دور موسكو في الشؤون الليبية، وأثبت قدرتها على إيجاد لغة مشتركة مع الليبيين، وجلب الأطراف المتناحرة إلى طاولة المفاوضات على أراضيها. وفي نهاية ديسمبر 2020، وصل معيتيق مع سيالة إلى العاصمة الروسية مجدداً.رئاسة المجلس
في غضون ذلك، لايزال صالح الاسم المفضل لدى الكرملين من بين القادة السياسيين في شرق ليبيا، علماً بأنه احتفظ بمنصب رئيس مجلس النواب رغم عجزه عن تسلم رئاسة المجلس الرئاسي. تأكد هذا الموقف بعدما اقتنع الجانب الروسي مجدداً بأنه ما عاد يستطيع الوثوق بحفتر الذي خسر مصداقيته أخيراً أمام داعميه الخارجيين غداة انهيار عملية احتلال طرابلس. تجدر الإشارة إلى أن الخبراء الروس هم من حضّروا مشروع إصلاح المجلس الرئاسي، وحكومة الوفاق الوطني لعقيلة صالح ولايزال جزء من الأحكام معتمداً حتى الآن.علاقات وثيقة
في الوقت نفسه، لم يُطوّر الجانب الروسي بعد علاقاته مع وزير الداخلية النافذ في حكومة فايز السراج، فتحي باشاغا، الذي تربطه علاقات وثيقة مع تركيا ومع الدول الغربية أيضاً.يريد وزير الداخلية في حكومة الوفاق الوطني أن يزور موسكو لعقد محادثات وإطلاق حوار بنّاء. لم يكن يُفترض أن تجتمع روسيا في 28 يناير مع معيتيق بل مع باشاغا الذي تلقى دعوة من بوغدانوف.لابد من مراعاة عاملَين أساسيين في هذا المجال. صرّح مصدر روسي مُطّلع يعمل على الملف الليبي لموقع "ألمونيتور" بأن جهود تنظيم زيارة باشاغا إلى موسكو حصلت في ربيع وصيف عام 2020، حتى انها بدأت على الأرجح قبل تلك المرحلة. لكن تعرّض الجانب الروسي الرسمي للضغوط لاحقاً كي يلغي الزيارة من جهات غير حكومية نافذة، بما في ذلك "مؤسسة حماية القيم التقليدية". تقع هذه المنظمة في موسكو ولها علاقات وثيقة مع "مزرعة متصيدين" روسية سيئة السمعة. كان اثنان من موظفيها، وهما مكسيم شوغالي وسامر سويفان، محتجزَين في ليبيا أثناء تحضير زيارة باشاغا غداة اتّهامهما بالعمل لصالح سيف الإسلام القذافي، ابن الزعيم المخلوع معمر القذافي. اتُّهِمت وزارة الداخلية في حكومة الوفاق الوطني مباشرةً باحتجازهما.صورة سلبية
لم تحصل المفاوضات في تلك الفترة لهذا السبب. على صعيد آخر، قدّم فيلم روسي عن مصير الرجلَين المحتجزَين في ليبيا صورة سلبية جداً عن باشاغا وقد عرضته القناة الروسية الفدرالية NTV. وفي عدد من وسائل الإعلام الروسية الأخرى، يُشار إلى وزير الداخلية الليبي بعبارة "زعيم الإرهابيين". لهذه الأسباب، أعاقت هذه الخلفية السلبية نشوء أي حوار حين بدأت موسكو تُعبّر عن اهتمامها بتطوير علاقاتها مع باشاغا.حاول سياسيون في غرب ليبيا، بما في ذلك شخصيات مرتبطة بحكومة الوفاق الوطني أن يتنافسوا كي يصبحوا الجهات المفضلة لدى روسيا. ثم تأخرت عملية تحرير الرجلَين الروسيين بسبب المنافسة القائمة بين أكثر اللاعبين نفوذاً في حكومة الوفاق الوطني الليبية، من أمثال السراج ومعيتيق وباشاغا.المنافسة الداخلية
اتُّخِذ قرار إطلاق سراح الرجلَين في نهاية ديسمبر ودعم السراج ذلك القرار. لكن تأخر تنفيذه مجدداً حين أراد وزير الداخلية والمدعي العام تحريرهما على اعتبار أنها مبادرة شخصية منهما. لم يرغب رئيس حكومة الوفاق الوطني أن يُنفَّذ قرار إطلاق سراهما من وراء ظهره أو بعد تجاوز صلاحياته. كان السراج يخشى أن يظهر باشاغا بصورة إيجابية أمام موسكو، لذا أجّل إطلاق سراح الرجلَين في محاولة منه لمنع أي تقارب بين باشاغا وروسيا، لأن هذا التطور قد يقوي مكانة وزير الداخلية. لم يُطلَق سراح الروسيَين قبل ديسمبر 2020. يمكن اعتبار وصول معيتيق بدل باشاغا إلى موسكو انعكاساً للمنافسة الداخلية إذاً.كذلك، لا تستبعد موسكو احتمال التفاوض مع مرشحين آخرين يعارضون عموماً الصيغة الراهنة من الحوار الليبي الداخلي، وقد يكون دورهم مؤثراً إذا فشل ذلك الحوار. في سبتمبر 2020، قام نوري أبوسهمين، الرئيس السابق للمؤتمر الوطني العام الليبي والرئيس الحالي لحزب "يا بلادي"، بزيارة موسكو حيث عقد محادثات مع بوغدانوف وممثلين عن الوكالات الأمنية الروسية.تصاعد الضغوط
كان لافتاً أيضاً حضور خيري التميمي، مدير مكتب القائد العام للجيش الوطني الليبي، إلى محادثات يناير في موسكو ضمن الوفد القادم من بنغازي. في إطار الاتصالات العسكرية الحاصلة، قد يُلمِح حضوره إلى نيّة روسيا الحفاظ على وجودها العسكري في ليبيا وإيجاد سبب شرعي لتبرير تحركاتها. تزداد أهمية هذا الهدف في ظل تصاعد الضغوط من واشنطن بعد تدخّل إدارة الرئيس جو بايدن على خلفية اللجوء إلى مرتزقة روس من "مجموعة فاغنر".مدينة منزوعة السلاح وانسحاب المرتزقة
لا يمكن استبعاد احتمال أن ترغب روسيا في بناء قواعد عسكرية دائمة لها في ليبيا، لاسيما في المواقع التي ينتشر فيها المرتزقة الروس منذ الآن. قد تنشأ إذاً قاعدة بحرية في سرت أو قاعدة جوية في الجفرة. لكن تكمن المشكلة في اختيار مدينة سرت لاستضافة السلطات الجديدة، أي حكومة الوفاق الوطني والمجلس الرئاسي، ويُفترض أن تصبح هذه المدينة منزوعة السلاح. سيكون انسحاب المرتزقة أول خطوة من هذه العملية.لكن يمكن الحفاظ على الوجود الروسي في سرت والجفرة عبر إرسال بعثة روسية رسمية تابعة لوزارة الدفاع إلى تلك القواعد لمساعدة السلطات الليبية الجديدة على إنشاء قوات مسلّحة موحّدة تزامناً مع سحب المرتزقة الروس من البلد. لكن لتنفيذ هذه الخطة، يجب أن تحصل روسيا على موافقة السلطات الجديدة والمعترف بها رسمياً في ليبيا، وتستطيع موسكو أن تستفيد من الشخصيات "المحسوبة عليها" هناك لتحقيق غايتها.في هذا الملف أيضاً، تستطيع روسيا وتركيا أن تتوصّلا على الأرجح إلى تفاهم مشترك. لكن يجب ألا ينسى أحد أن أنقرة بدأت تبني قاعدتَين لها في ليبيا: قاعدة جوية في الوطية، وقاعدة بحرية في مصراتة. كذلك، من المتوقع أن يحصل تقارب بين مواقف موسكو وأنقرة بشأن مسار ليبيا غداة إعلان الولايات المتحدة عن خططها الرامية إلى تحرير ليبيا من أي وجود عسكري أجنبي (لا يستهدف هذا الموقف روسيا فحسب بل يشمل تركيا والإمارات العربية المتحدة أيضاً). أدلى السفير الأميركي في مجلس الأمن، ريتشارد ميلز، بهذا الموقف صراحةً. يتعارض هذا التصريح الأميركي مع مصالح تلك الدول التي تسعى إلى ترسيخ مكانتها في ليبيا، لذا قد تصبح مستعدة الآن لتقديم تنازلات مشتركة وعقد التسويات لتنفيذ خططها بنشر وحدات عسكرية في ليبيا.