طرحت الحكومة رسمياً مشروعاً بقانون يسمح لها بالسحب من احتياطي الأجيال القادمة بما لا يتجاوز 5 مليارات دينار سنوياً لمواجهة العجز المالي المنتظر، مبررة تلك الخطوة بالظروف الاقتصادية التي تمر بها المالية العامة للدولة بسبب التراجع الحاد في الإيرادات النفطية وهي المصدر شبه الوحيد والرئيسي لدعم ميزانية الدولة.وتأتي تلك الخطوة بديلاً حسب ما يبدو عن قانون الدين العام الذي سعت إليه الحكومة أكثر من مرة مع مجلس الأمة وقوبل بالرفض الشديد، وفي ضوء بوادر الصدام المبكر مع المجلس الحالي أيقنت أن طريق ذلك القانون صعب وغير ممهد، وعليه فلا بديل لها عن اللجوء إلى احتياطي الأجيال.
لكن التساؤل الذي يطرح نفسه هو: هل يعد هذا الخيار هو الطريق الأمثل في ضوء غياب أي إجراءات جادة نحو تقليص قنوات الهدر ووضع خطة شاملة ترافق عمليات الاستدانة حتى تكون متكأ وعامل إقناع سواء للحكومة أو الشارع العام الذي يبدي قلقه على مستقبل الاحتياطيات عموما؟. «الجريدة» بدورها التقت نخبة من خبراء الاقتصاد لاستطلاع آرائهم في هذا الصدد فجاءت متباينة في ظل الخيارات المحدودة، غير أن جميعهم اتفقوا على نقطة الإصلاح كخيار والبدء فيه من دون تردد مع مواجهة المشكلة والمصارحة بشأنها... وفيما يلي التفاصيل: في البداية، شدد رئيس شركة الشال للاستشارات الاقتصادية جاسم السعدون على أن مبادرة الحكومة في تقديم مشروع بقانون يقضي بجواز سحب 5 مليارات دينار من احتياطي الأجيال ليس الحل الأمثل ولكنه حل أسهل للحكومة، التي بمجرد ما أُعطيت الفرصة سحبت كل الاحتياطي العام. وأكد السعدون أنه وفقا للمارسات فإن الحكومة غير واعية بما يمكن أن يحدث في المستقبل وفتح الباب أمامها قد يقضي على كل سيولة الأجيال القادمة خصوصا أنها تلجأ للحلول السهلة دوما، لافتاً إلى أن مشروع الموازنة الذي صدر تضمن زيادة في النفقات العامة بنحو 6.9 في المئة في النفقات العامة ولو استمر هذا الوضع فسيتم القضاء تماماً على احتياطي الأجيال بحلول 2030.وشدد السعدون على انه إذا لم تكن الحكومة واعية فيجب ألا تمنح بدائل وخيارات سهلة، إذ إنه من الحصافة أن أي محاولة لمواجهة حريق العجز بالسحب من الاحتياطي أن يقدموا برنامجا اقتصاديا ورؤية محترمة مطمئنة قابلة للتطبيق. واضاف ان «قرار السحب من احتياطي الأجيال قرار وخيار ليس سهلا، لذلك لابد أن يعلنوا بوضوح وشفافية برنامجا يتراوح بين 3 و5 سنوات: ماذا سيفعلون بهذه الأموال؟ وأين ستصرف؟ هل سيخلقون فرص عمل بها ويعززون مصادر دخل وفرص إنتاج مدرة اخرى؟ وهل سيطلبون كلما تحقق عجز أم ماذا سيكون عليه الوضع؟ لأن هذا المقترح يجب ألا يكون صكا مطلقا».وطالب بوضع اسس واضحة رشيدة وحكيمة للنفقات العامة وآليات تمويلها، تراعي القضاء على سلوك الإنفاق غير الرشيد الذي «ورط البلد»، مؤكدا أن احتياطي الأجيال القادمة هو عنصر القوة المتبقي للدولة، وعمق الأمان الذي يجب أن تتم حمايته حتى لا يقضوا عليه كما قضوا على الاحتياطي العام، وتابع: «الحكومة عودتنا على ارتكاب الخطايا، لذلك لابد أن تقدم مبررات وتعهدات لكيفية مواجهة العجز ومعالجة الخلل إن كانت حكومة رشيدة وسديدة».
تقديم البدائل
من جهته، قال الرئيس التنفيذي لمجموعة البنك الوطني عصام الصقر، «يجب على الحكومة أن تدرس كل الخيارات والبدائل المتاحة أولا قبل الذهاب مباشرة إلى السحب من احتياطي الأجيال».وحث الحكومة على ضرورة المضي قدماً في إقرار الدين العام، وأن تحارب من أجل إقرار القانون، لأنه حل مناسب وأفضل على المديين البعيد والمنظور، معتبرا أنه لم تكن هناك جدية كافية أو مبررات مقنعة لمجلس الأمة ليقتنع بإقرار القانون خلال المرحلة الماضية.وأضاف أنه إذا قدمت رؤية شاملة مرفقة بقانون الدين العام، ومبررات فنية واضحة فحتماً سيكون هناك في المقابل تعاون وإقرار للقانون، إذ إن معظم التحفظات وأسباب الرفض تتعلق بطلب برنامج اقتصادي واضح وضمانات لإنفاق الأموال في قنوات محددة ذات فائدة وقيمة مضافة تنعكس على الدولة واقتصادها.وتابع انه في حال واجهت الحكومة تحديات صعبة، وحتمت الظروف الراهنة عليها في ظل عدم إقرار قانون الدين العام يبقى الخيار الوحيد أمامها احتياطي الأجيال، الذي يجب أن تسبق اللجوء إليه مساع أكثر جدية أولا واستنفاد كل الخيارات والحلول المتاحة.آلية تجارية
من جانبه، قال العضو المنتدب الأسبق لهيئة الاستثمار علي البدر إن توجه الحكومة إلى السحب من صندوق احتياطي الأجيال القادمة غير صحيح، وغير صحي، ما لم تتعهد بإعادة الأموال التي ستسحبها، مضيفاً: «نحن أمام مرحلة حساسة ومهمة، والصرف يجب أن يكون بحساب، طالما وصلنا إلى هذه النقطة، لا على رواتب وسفرات وغيرها فقط، ومطلوب معالجة شاملة تضمن الاستدامة».وأكد البدر أن عملية السحب من الاحتياطي العام يجب أن تكون وفق آلية تجارية بحتة، أي بسعر الفائدة السوقي، حتى لا تظلم الأجيال القادمة، وبالتالي يفترض أن تكون هذه الآلية كالعلاقة المؤسسية الاقتراضية بحيث يقرض احتياطي الأجيال الاحتياطي العام المبالغ التي يحتاج إليها لتمويل عجز الموازنة، موضحا أن هذا الإجراء لا يحتاج إلى قانون، إذ سبق أن مارست الحكومة عملية السحب بعد التحرير، وتم احتساب فائدة على المبالغ المسحوبة، وبعد تحسن الأوضاع ومع أول فائض تم سدادها.قوة الاحتياطي
أما الرئيس التنفيذي لمجموعة بنك برقان مسعود حيات، فقال إن الاتجاه نحو احتياطي الأجيال ليس الطريق الصحيح أو الأمثل حالياً، إذ إن إقرار قانون الدين العام يعد خياراً أمثل، وفي المقابل يجب المحافظة على قوة احتياطي الأجيال كمصدر قوة مالية للدولة.وأضاف حيات أن السحب من احتياطي الأجيال يعد خياراً سهلاً، إذ يمكن اللجوء إليه بمرونة على عكس الدين العام.إصلاحات جذرية
بدوره، حذر الرئيس الأسبق لاتحاد مصارف الكويت عبدالمجيد الشطي، من استنزاف احتياطيات الدولة، من دون اصلاحات جذرية لأوجه الخلل، والبدء بمعالجات حقيقة فعالة. وقال الشطي إن الدولة لجأت الى الاحتياطي العام وسيولة بعض الجهات الحكومية، والآن أتى دور احتياطي الأجيال، وهو ما يجب الوقوف أمامه، ولنتساءل: هل ستدرك الحكومة ان الهيكل الاقتصادي يواجه خللا وتحديا من زيادة مستمرة في المصروفات العامة والدعوم والرواتب؟ وأضاف: أمام تلك الخطوة توجد أسئلة مستحقة أبرزها: ما هي الإصلاحات التي تنوي الحكومة تنفيذها، خصوصا أن التجربة الماضية تؤكد انها عاجزة عن القيام بدور اصلاحي حقيقي وفعال؟ ونبه الشطي إلى ان التخوف هو ان يستمر العجز الى مرحلة أطول، وبالتالي يتم استنزاف احتياطي الأجيال بعد العام. وأضاف أن الأمثل أن تواجه الحكومة الوضع وأن تضع برنامجا كاملا عن رؤيتها وماذا تريد ان تفعل بالمرحلة المقبلة، في ظل التحديات الحالية على كل المستويات: معالجة العجز والدين العام وكيفية إعادة الأموال المسحوبة والإصلاحات الاقتصادية المؤجلة، والتي عمقت الخلل ورفعت كلفة المعالجة. وتابع الشطي: لتكن الحكومة واضحة في ملف الإصلاحات بأنه لا معالجة من دون المساس بجيب المواطن، لكن هذا لا يعني ان تضر بالمواطن المحتاج أو محدود الدخل. وقال: أيضا يجب ان تطرح الحكومة بدائلها بشأن الضرائب الانتقائية، التي تفرض على بعض السلع، وإعادة هيكلة الدعوم بمبلغ مقطوع، وغير ذلك من البدائل، لافتاً الى ان الأمر يحتاج الى حزمة معالجة ورؤية متكاملة على كل المستويات، حيث لن تجدي معالجة جانب وإهمال آخر، إن اردنا نتيجة وفاعلية والخروج من دوامة التراجع وضغوط الخلل والعجز والسحب من الاحتياطي العام. وأوضح أن أهم ركيزتين في رؤية وخطة تنويع مصادر الدخل هما فرض ضرائب وبناء قطاع خاص قوي ومتين يشارك بفاعلية في الاقتصاد بمساحة أوسع. وذكر الشطي أن مصطلح تنويع مصادر الدخل له استحقاق وليس مجرد جملة تطلق فحسب، مؤكدا ان الشروع في تنويع مصادر الدخل يعد خطوة مهمة اذا تحققت وفق أسس علمية ووضعت على سكة التنفيذ.تقليص الميزانية
بدوره، قال النائب الأول لرئيس غرفة التجارة والصناعة عبدالوهاب الوزان، إن عملية اللجوء للسحب من احتياطي الأجيال إجراء ليس بجديد، وسبق أن مارست الحكومة الإجراء لإعادة إعمار وبناء الكويت بعد التحرير، لكن الوضع حالياً مختلف بسبب الظروف والتداعيات، لذلك نتمنى أن يرافق الإجراء تعهدات من الحكومة بتخفيض التكاليف وتقليص المصاريف الحكومية وتقليل الهدر. وأضاف الوزان، أنه يتوجب أيضاً إعادة النظر في الميزانية 2021 / 2022 المعلنة أخيراً، التي تبلغ 23 مليار دينار، «إذ يجب أن تقلص إذا كانت الحكومة جادة في معالجة الهدر وستعتمد على صندوق احتياطي الأجيال».وقدّر حجم الخفض في الميزانية المتوجب من 23 إلى نحو 19 مليار دينار عبر ترشيد انفاق الدوائر والجهات الحكومية، وأن تكون عملية الاقتراض من احتياطي الأجيال محاطة بضمان سداد الدولة ما عليها من واجبات للأجيال القادمة. وشدد الوزان على ضرورة ان تذهب مباشرة من دون تأخير إلى خلق وايجاد بدائل ومصادر رديفة للدخل بعيداً عن «البرميل»، وأنه «حتى تكتمل الصورة يجب على المشرعين والجهات الرقابية القيام بواجباتها لمراقبة عمليات الصرف للمبالغ التي ستقترضها الحكومة مراقبة شديدة وتتبع قنوات الصرف وآلياتها». واعتبر أن اللجوء إلى احتياطي الأجيال بديل إجباري لقانون الدين العام، لكنه يفرض على الحكومة التزامات وواجبات كبيرة ومضاعفة. وأعرب عن الأمل أن تشهد المرحلة المقبلة تعاوناً بين الحكومة ومجلس الأمة لعبور مرحلة التحديات خصوصاً وسط بشائر تحسن أسعار النفط التي يجب ألا يتم الركون إليها بل تكون عاملاً مشجعاً ومحفزاً للبدء في الإصلاحات وايجاد مصادر دخل، ولا نعود للوراء بعد الدروس المستفادة من سلسلة الأزمات المتعاقبة.