تمرّد وشيك في إثيوبيا
يشير الصراع القائم في إثيوبيا إلى تصعيد خطير يجب أن يتنبه له السلك الدبلوماسي الأميركي كله، إذ يهدد هذا الوضع الاستقرار الذي اجتهدت الولايات المتحدة لإرسائه في منطقة متقلبة ومليئة بالجماعات الإرهابية.
من الشائك أن يبالغ المحللون في دق ناقوس الخطر أو يميلوا بسهولة إلى مقارنة أي وضع مع الإبادة الجماعية في رواندا في عام 1994، وهي من أكثر الإخفاقات المأساوية في السياسة الخارجية الأميركية، لكن سيكون الامتناع عن إقامة هذه المقارنة في الأوقات المناسبة نهجاً خطيراً أيضاً، تتضح هذه المعضلة الشائكة في إقليم "تيغراي" حيث يزداد الوضع سوءاً منذ أكثر من مئة يوم.اندلع الصراع الأهلي في إثيوبيا في 4 نوفمبر، حين كان العالم منشغلاً بالانتخابات الأميركية الرئاسية، بعدما أصدر رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، أمراً بشن هجوم عسكري ضد الإقليم الواقع في أقصى شمال البلد رداً على الاعتداءات التي أطلقتها "جبهة تحرير شعب تيغراي"، أكبر حزب في المنطقة، ضد قواعد عسكرية تشمل قوات حكومية.تفاقمت المأساة الحاصلة لأن التطورات الأخيرة في "تيغراي" كانت متوقعة منذ وقتٍ طويل وكان يمكن تجنبها لو لم تغفل الجهات الدولية الواسعة في إثيوبيا عن حقيقة ما يحصل كالعادة أو تلتزم الصمت لتحقيق مكاسب دبلوماسية.
يقول مات برايدن، مدير المنظمة البحثية "ساهان" المعنية بشؤون القرن الإفريقي: "أتوقع جدّياً أن يتطور الوضع ويتحول إلى حركة تمرّد طويلة وطاحنة قد لا تقتصر على أجزاء أخرى من إثيوبيا بل تمتد أيضاً إلى إريتريا".بعيداً عن المأساة المحصورة داخل حدود "تيغراي" الإقليمية، يشير الصراع القائم إلى تصعيد خطير يجب أن يتنبه له السلك الدبلوماسي الأميركي كله، إذ يهدد هذا الوضع الاستقرار الذي اجتهدت الولايات المتحدة لإرسائه في منطقة متقلبة ومليئة بالجماعات الإرهابية.لكن أدى تفشي فيروس كورونا والأزمات المحلية الأخرى إلى إخماد الزخم السياسي الأميركي وتلاشي اهتمام واشنطن بإثيوبيا. يبدو أن هذا الزخم سيتجه نحو ملفات أخرى وفق خطاب "عودة أميركا" الذي ألقاه بايدن في 4 فبراير في وزارة الخارجية، فحدّد أولويات مثل دعم حقوق المتحولين جنسياً على الساحة العالمية، حتى أن ذلك الخطاب ذكر اليمن ووضعه الكارثي، لكنه لم يأتِ على ذكر إثيوبيا رغم علاقاتها الوثيقة مع واشنطن. الولايات المتحدة هي أكبر شريكة لإثيوبيا على مستوى المساعدات الإنسانية، وقد قدمت لها مساهمات كبرى كي تصبح نموذجاً للتنمية والأمل على الساحة الدولية بعد صور المجاعة التي انطبعت في أذهان الناس حول العالم خلال الثمانينيات، لكن قد تنهار هذه المزايا كلها مع سقوط "تيغراي" وتتفكك إثيوبيا معها وتمتد تداعيات المشكلة إلى الخارج.يتصرف آبي من جهته وكأنه واثق من أن انشغالات إدارة بايدن ستمنعها من زعزعة علاقتها مع بلده، حيث كتب ثلاثة أعضاء ديمقراطيين مرموقين في مجلس الشيوخ رسائل إلى آبي حديثاً وعبّروا فيها عن مخاوفهم من انهيار حرية الصحافة و"تكتيكات الحكومة الصارمة"، وطالبوا بإطلاق سراح الصحافيين المعتقلين، لكن باستثناء هذه المواقف، لم تتخذ الولايات المتحدة أي خطوات أخرى.تفيد التقارير بأن قيادة "جبهة تحرير شعب تيغراي" أعلنت شروطها كي تشارك في محادثات حول أي تسوية سلام محتملة، لكن تشير جميع المعطيات إلى عدم استعداد آبي لتقديم التنازلات. يقول محلل مخضرم للشؤون الإثيوبية زار البلد حديثاً بعد عمله هناك طوال عشر سنوات تقريباً: "يبدو مستوى عدم التسامح مع "تيغراي" شديداً بدرجة غير مسبوقة". يحمل آبي برأيه "ميولاً دكتاتورية كلاسيكية".يظن بعض المحللين أن الوقت حان لتدخّل مجلس الأمن، لكن ما ستكون نتيجة هذه الخطوة؟ ثمة رفض عام لأي شكل من التدخل الخارجي. إنها ردة فعل مبررة نظراً إلى صعوبة تنفيذ تدخّل ناجح في الدول الأخرى، لكن على غرار المعضلة المرتبطة بمقارنة الظروف بأحداث رواندا، لا مفر من تصاعد المخاطر المطروحة نتيجة الامتناع عن التحرك والتستر على الجرائم الحاصلة.