نساء في غرفة فرجينيا وولف!
وأنا أتابع جهدها الثقافي الكبير والمتواصل في جامعة الكويت، قسم اللغة العربية، سبق لي أكثر من مرة أن تكلّمت عن الزميلة العزيزة الدكتورة سعاد العنزي، بخوفي من أن يأكل التدريس والنشاط الثقافي في الكلية، الحضور النقدي لها، سواء عبر مقالاتها النابهة، أو عبر إصداراتها النقدية. لذا شعرتُ بأكثر من فرح لحظة تسلمت كتابها الجديد «نساء في غرفة فرجينيا وولف.. الخطاب النقدي حضور يقاوم الغياب»، فرحت لأن الدكتورة سعاد استطاعت الموازنة بين عملها وجهدها الأكاديمي، وبين إخلاصها للنقد، بوصفها إحدى أهم الأصوات النقدية في الكويت والخليج والوطن العربي.عبارة «المكتوب يُقرأ من عنوانه»، متحققة تماماً في عنوان ولوحة غلاف الكتاب الصادر عن دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، بطبعته الأولى 2021، فاشتغال الدكتورة العنزي بالنقد، وبما يخص المرأة تحديداً جاء واضحاً ومكرّساً عبر عنوان الكتاب ولوحته، اللذين يأخذن القارئ إلى ثلاثة أمور، الأول: الكتاب يخوض في الحضور النسوي عبر الكلمة الأوضح في الغلاف «نساء»، والثاني: الكتاب يتناول اسمين كبيرين في الكتابة النسوية، هما فرجينيا وولف ومي زيادة، اللتان جاءتا على الغلاف بصورتين بارزتين، والثالث: إن العنوان بمجمله تناول القضايا النسوية عبر الخطاب النقدي. لذا يمكنني القول إن لوحة الغلاف قدمت مدخلاً دالاً وناجزاً لمحتوى الكتاب.إن مدّ خطوط التقاطع والتوازي بين تجربتين أدبيتين ثقافيتين كبيرتين هما البريطانية فرجينيا وولف، واللبنانية الفلسطينية الجذور مي زيادة، يُعتبر التفاتة جد ذكية وجريئة من الدكتورة سعاد. فتناول تجربة وولف يكاد يكون محذوراً بالنظر إلى الكم الكبير من الدراسات والمقالات والكتب التي تناولت منجزها وحياتها، على امتداد خريطة العالم، وبالتالي ما الجديد التي ستأتي به الكتاب/الدراسة في مقاربته لعالم ونتاج وولف. كما أن عقد مقارنة بين وولف وزيادة موضوع شائك لتباين البيئتين اللتين نشأتا فيهما، وكذلك لاختلاف المناخ الاجتماعي المحيط بكل منهما، ولو أنهما عاشتا في فترة زمنية واحدة، واشتركتا في نيلهما شهرة عالية، لم تمسح ضيم الحياة وقهرها، وبما أدى في النهاية إلى انتحار وولف وموت زيادة.
فرجينيا وولف (1882-1941)، ومي زيادة (1886-1941) امرأتان شاءت أقدارهما أن تكون كل منهما اسماً خالداً في سجل الإبداع والثقافة وحركة تحرر المرأة سواء في محيطهما الاجتماعي والمكاني، أو في عموم الحضور النسوي الإبداعي والثقافي والإنساني المؤثر. إن قراءة متأنية لكتاب الدكتورة سعاد، توضح بشكل جلي الجهد المخلص والكبير الذي بذلته في تتبعها لحياة ونتاج ونهاية كل من وولف وزيادة. وكم هو دال أن تشتغل امرأة كويتية مسكونة بالعمل الإبداعي والثقافي والنقدي النسوي، على امرأتين رمزين وتغوص في عالمهما لتقدم البرهان الساطع على التضحيات الكبيرة والمؤلمة التي قدمتها كل منهما، لتقول ما عندها بكل جراءة وبشكل إبداعي حفظ لكل منهما مكانة مرموقة في سجل العمل النسوي! وإذا كانت البيئتان اللتان علمتا فيهما صعبتين ومحاطتين بالحضور الرجالي، فإن الفرق الشاسع هو أن فرجينيا حظيت بزوج محب ومتفهم وقف معها في أحلك لحظات حياتها، ودافع مراراً عن قضية جنونها، مؤمناً بها كحبيبة ومبدعة وإنسانة، بينما جنّد «جوزيف» ابن عم مي زيادة، ومن شغل قلبها في وقت سابق، نفسه للزجِّ بها عنوة وظلماً في مصح الأمراض النفسيّة، مدّعياً عليها بالجنون. وفي هذه اللحظة المنعطف من حياة مي، وبعد أن مات والدها ووالدتها، وبدل أن يقف «الرجال» الذين كانوا لمدة عشرين سنة، من روّاد صالونها الأدبي الديمقراطي اللامع، بدل أن يقفوا معها، فقد انفضّوا وتسرّبوا من حولها، ولم يكلّف أي منهم نفسه قول كلمة حق، كلمة وفاء، كلمة موقف بحق الرائعة مي! تبخّروا من حولها، وكأنهم يعاقبونها على أنها كانت امرأة شريفة ولم تخضع لغرائزهم الحيوانية. ووحده أمين الريحاني، انبرى للدفاع عن صحة عقلها وعن وجودها. ووحده واجه مهمة تكاد تكون مستحيلة حتى نجح فيها، وأعاد مي إلى الحياة!فرجينيا وولف انتحرت بمحض إرادتها بعد أن تركت وصيتها، ومي زيادة ماتت بعزلتها بعد أن دانت وعرّت صفوة المجتمع العربي الرجالي! كتاب الدكتورة سعاد العنزي سياحة إبداعية ثقافية إنسانية في عقل ووجدان ونتاج امرأتين كانتا ولم تزلا مثار إعجاب وإكبار وألم!