نقطة: ديروا بالكم من الشعب
لم أعتبر نفسي يوماً ناشطاً سياسياً، ليس لعدم اهتمامي بالشأن السياسي العام، وإنما مشكلتي مع النشاط، ولا أعلم بالضبط ما هي مؤهلات استحقاق هذا المسمى، فما أعرفه حسب خبرتي المتواضعة جداً أن السياسة تحتاج للتفكير والتدبر والدهاء وصفات أخرى، أكثر من حاجتها للنشاط والطاقة والحيوية، كرة القدم هي من تحتاج لذلك قبل ذاك، ولكم في إبداعات ربيع سعد وعدنان درجال التاريخية نماذج توضيحية خالدة بهذا الشأن.ما تعلمته في السنوات الأخيرة من متابعتي لـ"النشاط" السياسي في الكويت أن أستعد للأسوأ مع كل من يسرف باستخدام مفردة "الشعب" في كلامه، فصارت هي كلمة السر التي إذا أكثر أحدهم منها تيقنت ألا فائدة ترجى منه على المدى المنظور، وذلك إما بسبب جهله المركب أو ضعف إمكانياته الفكرية والسياسية، فالمبالغة في استهلاك لفظ "الشعب" بأعلى من معدله الطبيعي المعقول، بحيث لا تأتي "إرادة الشعب" إلا مع "أموال الشعب"، و"كلمة الشعب" ثالثتهما، أو "الأمة" أحياناً من باب التنويع والفصاحة، تنبئ غالباً عن عجز أو مهرب من تقديم أي شيء مفيد ونافع "للشعب" المتكلم باسمه، ولا يعدو الأمر عن كونه خدعة لفظية واستعراضاً مسرحياً لتصوير رأي المتكلم وحوارييه بأنه إرادة "الشعب الكويتي" كله، إنما الأخطر من ذلك كله أن إدمان التحدث بلسان "الشعب"، وبكل ثقة وحماسة بواسطة لغة إقصائية جارحة يظنها صاحبها بلاغة وبياناً وحنكة، قد يصيبه مع مرور الزمن واعتياد سماع التصفيق بجنون العظمة، ولنا في إبداعات صدام حسين وحافظ الأسد والقذافي "الشعبية" ذكريات لا تنسى، ومع توالي التجارب وتكرار الصدمات تتلاشى العظمة ويبقى لنا الجنون فقط.قد يكون مما ساعد على تكاثر مثل هذه النوعيات من الساسة و"الناشطين" هو انعدام النقد الذاتي طبعاً، مع غياب أدوات قياس الرأي العام، والاعتماد في المقابل على وسائل التواصل الاجتماعي التي تعج بالمندفعين والمدفوعين وما أكثرهم، لترويج آراء العظماء من حماة "الشعب"، وتوجيه أو بالأصح تصوير الرأي العام وكأنه معهم، وكل حسب قدرته والحاجة إليه، فتجد مثلاً ذات من يعيبون على ترامب وجونسون شعبويتهم في الخارج هم بالمقابل شعبويو الكويت بل وأشد تطرفاً وتعنصراً، والأمور جميلة والحياة مستمرة.
لا أحسب "الشعب الكويتي" بحاجة لأن يُذكر بهذه الكثافة بوجوده وقيمته الطبيعية بقدر حاجته للأفكار الجديدة والعمل الجاد ولإنجاز شيء ملموس يفيده ويحسن حياته ويؤمن مستقبله، ففي عز أزمة السيولة، التي تضرب مالية الدولة، لم نسمع رقماً واحداً أو اقتراحاً مقدّراً بقدر سماعنا لمفردة "الشعب" التي لا تغني عن عقل ولن تدفع رواتب الموظفين آخر الشهر. هناك مثل نجدي قديم يقول "من ضيع المرجلة زبن بالطوع"، أما عندنا فيبدو أن "من ضيع العقل زبن بالشعب"، والظاهر أن بلوتنا ستكون مضاعفة بسبب التفاعل المشترك للمثلين أعلاه بين أرضنا وجمهورنا، وأستغفر الله لي ولكم يا "شعب" الكويت العظيم.