لم يكن بومبيو أول سياسي أميركي يتّهم إيران بتقديم الدعم إلى "القاعدة"، لكن ادعاءه حمل طابعاً مختلفاً بالكامل. اعتبر عدد كبير من المراقبين تعليقاته مجرّد حملة دعائية للتأثير على التقارب المتوقع بين إدارة بايدن وطهران. لكن مزاعم بومبيو، حتى لو كانت مبالغاً فيها ترتكز، على جزء من الحقيقة: حصل تطور معيّن بين "القاعدة" وإيران في عام 2015. في تلك الفترة، كانت إيران تحتجز بعض قادة "القاعدة" على أراضيها. وبموجب صفقة لتبادل الأسرى مع التنظيم الإرهابي، منحت طهران هؤلاء القادة حرية التنقل وسمحت لهم بالإشراف على عمليات "القاعدة" العالمية بسهولة لم تكن ممكنة في السابق. لكنّ أي تحليل دقيق لهذه الصفقة يزيد تعقيد المفهوم المرتبط بـ"محور إيران والقاعدة". ثمة تنسيق واضح بين النظام الإيراني والتنظيم الإرهابي في بعض المسائل، لكن لا تجمعهما شراكة حقيقية كتلك التي يروّج لها البعض على مستوى العمليات.أصبح نمط التعاون بين إيران و"القاعدة" واقعاً معروفاً. وفق تقرير لجنة التحقيق بهجمات 11 أيلول، "سافر كبار الناشطين والمدربين في "القاعدة" إلى إيران خلال التسعينيات للتدرّب على استعمال المتفجرات"، بينما تلقى آخرون "التوصيات والتدريبات من حزب الله" في لبنان. وفي السنوات التي سبقت هجوم 11 سبتمبر، سافر عدد من الخاطفين التابعين لتنظيم "القاعدة" عبر الأراضي الإيرانية.
يذكر التقرير أن "الانقسامات السنية- الشيعية لم تشكّل بالضرورة عائقاً دائماً أمام التعاون في العمليات الإرهابية" بين "القاعدة" وإيران.لطالما سعت قيادة "القاعدة"، رغم انتمائها إلى الحركة الجهادية السنية والمعادية للشيعة، إلى تخفيف الاضطرابات الطائفية لتحقيق هدفها الاستراتيجي الأبرز، أي التخلص من الوجود الأميركي العسكري في الشرق الأوسط. تتقاسم معها طهران ذلك الهدف طبعاً، لذا يمكن توقّع مستوى معين من التعاون بين الطرفين.لكن يظن الباحث في مجال مكافحة الإرهاب، عساف مقدم، أن علاقة "القاعدة" مع إيران لم تتجاوز يوماً عتبة "التعاون التكتيكي". سمحت إيران لهذا التنظيم باستعمال أراضيها كـ"معقل لتسهيل عملياته"، كما قال زعيم "القاعدة" أسامة بن لادن في رسالة من عام 2007، فذكر أن "إيران هي شرياننا الأساسي في مجال التمويل وتجنيد العناصر والاتصالات"، لكن فرضت طهران في الوقت نفسه ضوابط محددة على قادة "القاعدة" المقيمين فيها، وشهدت هذه العلاقة توتراً شديداً في فترات معينة.غداة هجوم 11 سبتمبر، حاول عناصر من "القاعدة" اللجوء إلى إيران، ونجحوا في مساعيهم، لكنهم واجهوا مستويات متنوعة من الاعتقال والإقامة الجبرية. اعتبر الناشطون ظروف اعتقالهم غير مقبولة، فقد عجزوا مثلاً عن التواصل مع العالم الخارجي. حللت العالِمة السياسية، نيلي لحود، آلاف الوثائق الداخلية المرتبطة بتنظيم "القاعدة" بعد العثور عليها في موقع داخل مدينة "أبوت آباد" الباكستانية حيث قُتِل بن لادن في عام 2011. فاستنتجت أن الرجال "ما كانوا ينفذون العمليات في إيران بل شعروا باليأس". حتى إنهم نظموا احتجاجات عنيفة ضد محتجزيهم الإيرانيين، ودعوا رفاقهم في الخارج إلى التدخل نيابةً عنهم.في رسالة موجّهة إلى قيادة "القاعدة" في منطقة أفغانستان وباكستان في عام 2010، اشتكى عدد من الرجال من احتجازهم في "سجن المخابرات الإيراني القمعي"، وأعلنوا أنهم لا يريدون إلا الرحيل. فدعوا "الإخوة في خراسان" (منطقة تاريخية تشمل أجزاءً من أفغانستان وإيران) إلى التحرك لإطلاق سراحهم: "ما نريده منكم هو خطف مسؤولين إيرانيين ثم التفاوض مع حكومتهم من دون تعميم ما يحصل". سرعان ما بدأت "القاعدة" تستعد لتنفيذ هذه الخطة.
صفقة تبادل الأسرى
في 2011، وافقت إيران و"القاعدة" على تبادل الأسرى، وسرعان ما أُطلِق سراح عدد من عناصر "القاعدة"، بما في ذلك ابن بن لادن، حمزة، مقابل تحرير دبلوماسي إيراني خُطِف في باكستان في عام 2008. وبعد مرور بضع سنوات، حصلت عملية أخرى لتبادل الأسرى في عام 2015 وقد شملت دبلوماسياً إيرانياً كان فرع "القاعدة" في اليمن قد خطفه في عام 2013. توضح هذه العملية الثانية السبب الذي سمح لعدد من قادة "القاعدة" بالعيش بكل حرية في إيران.في هذا السياق، ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" ومصادر إعلامية أخرى أن تبادل الأسرى في عام 2015 شمل إطلاق سراح خمسة من كبار الناشطين في "القاعدة" من الحجز الإيراني، بما في ذلك 3 مصريين (سيف العدل، أبومحمد المصري، أبوالخير المصري) وأردنيَين (أبوالقسام وساري شهاب) مقابل تحرير الدبلوماسي الإيراني في اليمن. لكن لا تقف القصة عند هذا الحد.في عام 2017، ظهرت تفاصيل إضافية عن تلك الصفقة في إطار خلاف داخلي بين الجهاديين حول قرار "جبهة النصرة" (فرع "القاعدة" في سورية) بالانسحاب من "القاعدة" وإنشاء جماعة مستقلة. تُعرَف هذه الجماعة باسم "هيئة تحرير الشام"، وهي تسيطر حالياً على مساحة واسعة من الأراضي في شمال غرب سورية، وتبدو علاقاتها متوترة مع قيادة "القاعدة" في أفضل الأحوال.في أكتوبر 2017، ألقى زعيم "القاعدة" أيمن الظواهري خطاباً أدان فيه تصرفات "هيئة تحرير الشام"، لأنها كسرت يمين الولاء للمنظمة الأم وشاركت في نضال قومي داخل سورية، ثم نشأت حرب رسائل بين مسؤول بارز في "هيئة تحرير الشام"، وهو عبدالرحيم أتون الذي حاول الدفاع عن قرار الجماعة بالانفصال، وعضوَين بارزين في "القاعدة" في سورية، وهما سامي العريدي وأبوالقسام. خلال هذا التراشق الكلامي، تطرق الرجلان إلى الاتفاق المبرم بين "القاعدة" وإيران في عام 2015 باعتباره السبب الذي أدى إلى إطلاق سراح قادة "القاعدة" الذين شهدوا على انسحاب "جبهة النصرة" من منظمتها الأم. يقول أتون إن صفقة تبادل الأسرى في عام 2015 شملت 6 عناصر من "القاعدة" كان قد اعتقلهم الإيرانيون. تحرر 4 منهم وسُمِح لهم بمغادرة إيران والاستقرار في سورية، وهم المصري أبوالخير المصري، والأردني أبوالقسام، ورفيقان آخران لهما لم تتحدد هويتهما. في المقابل، أُطلِق سراح اثنين آخرَين من إيران لكن لم يُسمَح لهما بمغادرة البلد، وهما المصري سيف العدل وأبومحمد المصري.في وقت إطلاق سراح الأسرى، كان أبوالخير المصري بمنزلة الممثل الأعلى للظواهري. في غياب الظواهري الذي كان معزولاً عن العالم الخارجي لأكثر من سنتين كما يقول أتون، أنشأ أبوالخير مجلساً قيادياً مع سيف العدل وأبومحمد المصري في إيران لتقييم القرارات المهمة. ثم انقسمت الآراء في المجلس حول اقتراح الفرع السوري بفك الارتباط عن "القاعدة": وافق أبوالخير في سورية على هذه الخطوة، بينما رفضها الرجلان المتواجدان في إيران. ثم قُطِعت العلاقات بين الطرفَين فعلاً رغم الأصوات المعارِضة.من وجهة نظر أتون، لم تكن مواقف القادة المتواجدين في إيران مهمة لأنهم "كانوا أسرى في دولة إيران العدوة". ورداً على هذا الموقف، اعترض أبوالقسام على وصف الرجال في إيران بالأسرى أو المحتجزين، فكتب: "غداة صفقة تبادل الأسرى التي تعرفونها، خرج سيف العدل وأبومحمد المصري من السجن وما عادا محتجزَين بالمعنى المتعارف عليه. لكنهما ممنوعان من السفر إلى أن يأذن الله برحيلهما. باستثناء قرار منع السفر، هما يتنقلان ويعيشان حياة طبيعية".لكنّ هذه التأكيدات تدعم على ما يبدو مزاعم بومبيو حين قال إن "ممثلي أيمن الظواهري يعيشون حياة "القاعدة" الطبيعية" في إيران اليوم. لكن تقف النقاط المشتركة في المواقف عند هذا الحد. يقول بومبيو إن إيران سمحت لممثلي الظواهري بالعيش بكل حرية فيها لأنها تسعى إلى تسهيل عمليات "القاعدة" الإرهابية، وهو يعتبر الطرفَين "شريكَين في الإرهاب والكراهية". لكنّ وضع أبوالقسام يعكس علاقة بعيدة كل البعد عن معنى الشراكة مع إيران. بحسب قوله، اكتسب قادة "القاعدة" حرية التنقل في إيران بصعوبة بالغة، وحصل ذلك نتيجة صفقة تبادل الأسرى في عام 2015. لم تمنحهم إيران هذا الحق طوعاً بل أُجبِرت على الامتثال. كذلك، لا يتواجد ممثلو الظواهري في طهران بكل إرادتهم، بل يُمنَع عليهم الرحيل بموجب شروط إطلاق سراحهم من إيران.لكن ما سبب إصرار إيران على إبقاء قادة "القاعدة" فيها؟ يتعلق جواب محتمل على الأرجح برغبة إيران في منع "القاعدة" من تنفيذ أي اعتداءات إرهابية ضدها. سبق أن حاربت قوات "القاعدة" الجماعات المدعومة من إيران في أنحاء الشرق الأوسط، بما في ذلك حزب الله اللبناني والحوثيون في اليمن، ويحمل عدد كبير من عناصر "القاعدة" بغضاً شديداً تجاه الإيرانيين. في غضون ذلك، أعلن تنظيم "داعش" الذي يحمل الايديولوجيا نفسها مسؤوليته عن بعض العمليات على الأراضي الإيرانية، منها اعتداءات ضد البرلمان الإيراني وضريح آية الله الخميني في عام 2017. بالتالي، يُعتبر وجود قادة "القاعدة" في إيران بمنزلة بوليصة تأمين لحماية البلد.لكنّ وجود هذه الشخصيات في إيران لا يعني بالضرورة أن طهران تقدم الدعم المادي لعمليات "القاعدة" راهناً. لا تثبت أي أدلة هذا الادعاء حتى الآن. بل يكشف مقتل أبومحمد المصري في طهران في شهر أغسطس الماضي، على يد عملاء إسرائيليين وفق الادعاءات الشائعة، أنه كان يعيش بكل حرية في إيران بموجب صفقة تبادل الأسرى في عام 2015. يبدو أن سيف العدل هو ممثل الظواهري الوحيد الذي يتمتع حتى الآن بهذه الدرجة من الحرية في إيران، رغم وجود عناصر آخرين من "القاعدة" في البلد اليوم.أفغانستان وإيران
يجب أن تُحاسَب إيران لأنها تحمّلت نشاطات "القاعدة" على أراضيها. لا يمكن اعتبار الحرية التي يتمتع بها ثاني رجل في "القاعدة" في العاصمة الإيرانية مسألة عابرة. ومع ذلك، يجب ألا تخلط الإدارة الأميركية الجديدة بين التهديدات التي تطرحها إيران و"القاعدة" أو تبالغ في تقييم نطاق تعاونهما. تبقى التحديات التي يطرحها الطرفان مختلفة ولابد من تقييمها بشكلٍ منفصل. يتمحور التحدي الإيراني حول البرنامج النووي والمغامرات التي يقوم بها البلد في المنطقة. أما المخاطر التي تطرحها "القاعدة"، فترتبط بتهديد الأراضي الأميركية وبحركات التمرد التي تطلقها الجماعات التابعة لها في وسط إفريقيا وشرقها وأماكن أخرى.على صعيد آخر، يجب أن تتجنب الإدارة الأميركية الجديدة إطلاق أي تقييمات مُسيّسة للتهديد الذي تطرحه "القاعدة". أعلنت الإدارة السابقة أن "القاعدة" لم تعد تشكّل مصدر قلق حين حاولت تقليص مخاطر الانسحاب من أفغانستان، لكنها أكدت في المقابل أن التنظيم بدأ يستجمع قوته مجدداً حين أرادت التشديد على تهديد النظام الإيراني. لا يمكن اعتبار أي من التحليلَين دقيقاً، مع أن تقييماً معاكساً يبدو أقرب إلى الواقع.من المتوقع أن تستفيد "القاعدة" من الانسحاب الأميركي من أفغانستان، علماً بأنها لم تستفد كثيراً من وجودها في إيران حتى الآن. حافظت حركة "طالبان" على علاقتها مع "القاعدة" رغم وعودها بالتوقف عن دعمها بموجب الاتفاق الذي أبرمته مع الولايات المتحدة في فبراير 2020 ويُلزِم القوات الأميركية بتنفيذ انسحاب كامل بحلول مايو 2021. حتى أن "القاعدة" تعتبر "طالبان" سلطتها العليا وأفغانستان معقل الخلافة المستقبلية، ولم ترفض "طالبان" هذه المفاهيم يوماً.في الوقت نفسه، لم تكن صفقة تبادل الأسرى بين إيران و"القاعدة" في عام 2015 كافية لتنفيذ أهداف التنظيم الإرهابي. بدل حصول "القاعدة" على ملجأ جديد وآمن حيث "تسعى إلى اكتساب القوة" كما يقول بومبيو، يبدو أن الاتفاق مع إيران أساء إلى التنظيم أكثر مما نَفَعه. من بين قادة "القاعدة" الستة الذين تحرروا عبر صفقة تبادل الأسرى، قُتِل أربعة منهم على الأقل (ثلاثة في سورية وواحد في إيران). كانت هذه الأحداث جزءاً بسيطاً من عمليات القتل المستهدفة التي دمّرت قيادة التنظيم الشاملة في السنوات الأخيرة. إذا أرادت "القاعدة" أن تستعيد قوتها في السنوات المقبلة إذاً، فلن تُحقق هذا الهدف في إيران بل في أفغانستان.