الذكرى الثلاثون للمسيرة من البصرة إلى الكويت
لو لم يذكرني رفيق الدرب سعود العنزي بها لما تذكرتها.في أواخر عصر ذلك اليوم، تقدم لنا عقيد ومقدم، ليبلغانا بصدور قرار الإفراج عنا، وترحيلنا للكويت مباشرة، نقلت المعلومة لبقية الأسرى. جاءني الرجل الصلب أبومحمد متسائلاً عن صحة خبر الإفراج، فما إن أكدت له ذلك، حتى وضع رأسه على صدري، وظل ينحب بحشرجة، كما لم أسمع نحيباً من قبل، لحظات كانت بعمر الزمن.كنا حينها 1181 أسيراً، في منطقة تدعى أبوصخير، تم اعتقالنا من شوارع الكويت المحتلة، في الأيام الأخيرة للاحتلال. بدأت مسيرة العودة بالنداء بالاسم، ومن يسمع اسمه يركب المنشأة (الباص)، ثم عندما لم تكفِ جيء بالشاحنات وتم نقلنا للحدود، صفوان، فالعبدلي. سنترك أحاديث بوصخير لوقت لاحق، ففيها الكثير مما هو مثير.
ما إن دخلنا الحدود الكويتية حتى أكد لنا ممثل الصليب الأحمر أنهم كانوا قد اتفقوا مع العراق لزيارة المعتقل وتسجيل الأسرى، ثم نقلهم بصورة منظمة، كما تنص اتفاقية جنيف الثالثة، إلا أن القرار العراقي كان بإلقائنا على الحدود. تعاونا مع الصليب الأحمر بعملية التسجيل، التي استغرقت ساعات، حتى حل علينا الليل ببرده القارس، مفتتاً العظام وما داخلها. فكان أن لجأنا لإشعال إطارات السيارات المدفونة بالصحراء للتدفئة، ولأول مرة نعرف فائدتها. انتظرنا طوال الليل أن يطل علينا أحد من حكومتنا، ومضى الليل دون حتى خيالات. وعندما بلغت الشمس مبلغها بدأت ملامح الباصات (المنشآت). بلغ الإعياء منا مبلغه والجوع والمرض، إلا أن مسؤولاً عسكرياً كويتياً أصر على أن يتفقد هوياتنا، واضطر الأسرى المتعبون إلى الاصطفاف طابوراً طويلاً لكي يصعدوا الباصات. احتج عدد ممن لم يركبوا الباصات على ذلك السلوك، وطلبوا الركوب، وأن يتم التفقد بالباصات، خاصة أن أغلب هوياتنا مزورة أثناء الغزو، إلا أن ذلك الطلب تم رفضه، فاحتج بعضنا ورفضوا ركوب الباصات الحكومية، وقررنا المسير على الأقدام عائدين لبلادنا المحررة. أتذكر أنني قلت لأحد المسؤولين، الذي كان يحاول تهدئة الموقف: أليست هذه الكويت المحررة؟ قال: نعم، قلت: إذن نحن متجهون لها.مشينا مسافة طويلة مع كل التعب وتشقق الأقدام، إلا أننا كنا بشوق للعودة. كان يسير بمعيتنا العديد من تلفزيونات العالم، وصورونا وربما تحدثوا مع بعضنا. الغريب في الأمر أن تلك الصور تكاد تكون الوحيدة الموثقة لعودة الأسرى، إلا أن الكثيرين لا يعلمون بأن المشي على الأقدام كان احتجاجاً على تصرف غير حصيف من مسؤول كويتي.