رسم انتشار وباء كورونا على حياة ومدن كل من إيطاليا وفرنسا بشكل مؤثر ملامح العصور الوسطى والقرون المظلمة، والتي أطلعنا القارئ عليها في بعض المقالات السابقة عن الطاعون "والموت الأسود" في البلدين وأوروبا عموما خلال القرن الرابع عشر. وتسبب الوباء ربما للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، في أن تتوقف وتجمد حركة السياحة المليارية في البلدين اللذين تشكل السياحة فيهما مصدراً أساسيا للدخل وتوفير فرص العمل، حيث كان دخل السياحة في فرنسا وفق إحصائيات 2017 نحو 46 مليار دولار، وفي إيطاليا أقل من ذلك بقليل أي نحو 40 مليار دولار، أما الوفيات في البلدين فكانت نحو 9 أشخاص لكل ألف في فرنسا وعشرة لكل ألف في إيطاليا، أما النسبة في الولايات المتحدة فكانت 8 اشخاص وفي إسرائيل نحو 5 أشخاص، وهذا بالطبع قبل "عام كورونا".

وقد شلّ الوباء في البلدين السياحة وبخاصة الخارجية ورفع بدرجة مخيفة نسبة الوفيات، غير أن بعض المتاحف والأماكن السياحية اغتنمت الفرصة، ومنها "متحف اللوفر" في باريس للترتيب والترميم والتعمير رغم خسائرها الفادحة من غياب الزائرين وبخاصة السياح الأجانب، في حين تكدست جثث الفرنسيين والإيطاليين من كبار السن والمرضى المتوفين في المشارح وعنابر المتوتى والمقابر، في مشاهد مأساوية مخيفة بانتظار دورها في الدفن دون ورد أو وداع.

Ad

أشادت كتب الرحلات العربية بجمال المدن الإيطالية وحيويتها والتي رأيناها خلال هذا الوباء خاوية خالية مقفلة حزينة ومن الذين زاروا أوروبا ورأوا الكثير من أقطارها قبل أكثر من مئة عام "إدوار إلياس" من الشوام المقيمين في مصر وصاحب كتاب "مشاهد الممالك" حيث يصف بعض مدنها وبخاصة "فينيسيا" فيقول: "هي البندقية المشهورة التي تفردت بعجيب موقعها وغريب وضعها حتى أطلق عليها الكتاب اسم سلطانة الادرياتيك، وضُربت بمحاسنها الأمثال، وتعشّق طلاب الأدب ذكرها وزيارتها من قِدم، فنظموا عقود الشعر الرنان في مدحها ووصف غرائبها واشتهر اللورد بيرون الإنكليزي وغيره بما نشروه من نفثات يراعهم عنها، ولا عجب فإنها المدينة العجيبة التي بنيت فوق الماء بدل الأرض، والتي تقوم فيها الزوارق والقوارب مقام العربات والخيل، وتحل الترع محل الشوارع والبرك محل الميادين والرحبات، فكل ما فيها خاص بها يميزها عن سواها. بنيت على 117 جزيرة تتكون منها أحياء المدينة وتفصلها بعضها عن بعض 150 ترعة هي الشوارع العمومية بنوا فوقها 378 قنطرة، فسهل المرور من جانب الى جانب وأكثر هذه القناطر جميل المنظر، وأما الأحياء أو الجزر المتباعدة فلا بد للوصول اليها من ركوب هاتيك الزوارق المستدقة المعروفة عندهم باسم جوندولا".

(القاهرة، مطبعة المقطم، 1910، ص440).

وتعتبر إيطاليا بحق بما تملك من مدن رائعة وآثار وكنوز فنية متحفا لا حصر لمحتوياته ولا حدود من زمان أو مكان لجمالها، غير أن إيطاليا التي عشنا معها معاناتها عام 2020 مع وباء كورونا والآلاف الذين فقدوا حياتهم كل يوم، عانت كذلك الكثير منذ أن ظهرت موحدة كدولة حديثة عام 1870 وبخاصة خلال الحربين العالميتين والأزمات السياسية المتوالية بقية القرن العشرين.

وقد زارها الكاتب الصحافي السوري المعروف "سامي الكيالي"، كما كتب عنها في كتابه "شهر في أوروبا" متأملا منجزات الدكتاتور موسوليني الذي حكم إيطاليا مستعينا بحزبه الفاشي الى نهاية الحرب العالمية الثانية، ويقول الكيالي عام 1934 وقد بلغ "فينيسيا" بالقطار: "تركنا ميلانو الى البندقية الى أعجوبة أوروبا كما يقولون، سنرى هذه المدينة التي تطفو على وجه الماء. الساعة التاسعة تماما الجو مربد، الإيطاليون كما رأيتهم في ميلانو هم هم لم يغير موسوليني من طبائعهم شيئا. أي صورة لهم في أذهاننا، ونحن في سورية، هي الصورة نفسها التي رأيتها في بلادهم، لقد نفخ فيهم الدوتش روح الحماس والحماس في الشعوب كالحب على وجه الماء أو كفقاقيع الصابون، إنهم يؤمنون بموسوليني ويتكلمون عليه وهو يتحمل تبعة كل شيء فلم يتعبون؟

قطع القطار بنا ساعات ستا فلم يقع نظرنا إلا على ما في الطبيعة من جمال يعجز الإنسان عن وصفه، المناظر تتجدد بين لحظة ولحظة، ها نحن قد اقتربنا من البندقية بعد أن تركنا ضاحية مستروا... إن القطار يعبر جسرا كبيرا، نحن في فم الخليج، مياه البحر تكتنفنا، البواخر الصغيرة تمخر عبابه، إنه في هدوئه الجميل.. الجزائر الصغيرة بأشجارها الخضراء، عواميد تلفونية ركزت في الماء، بدأت تظهر لنا البيوت وتطلّ علينا القصور".

(القاهرة، المطبعة العصرية، 1935، ص 148-149).

يتبع غداً،،،

خليل علي حيدر