لو أن الدعاة قد قرؤوا في فكر الشعوب القديمة والحديثة للاحظوا أن المرأة في تراث العرب والشعوب قاطبة هي حكيمة لا ناقصة عقل، واللغة العربية هي الدليل، لا ما يقوله الدعاة، فمصطلح (حكمة) في اللغة العربية مؤنث ولدى الإغريق الآلهة صوفيا Sophia آلهة الحكمة، واشتق منها اسم صفية العربي، كذلك اشتق منها مصطلح الصوفية، وهي جماعة باطنية، كذلك لدى السومريين آلهة الحكمة Boxsippa ولدى الكنعانيين عشيرة Ashera آلهة الحكمة وماعت Maat آلهة العدل والقوانين في مصر القديمة، وكان كل فرعون في مصر يضيف اسم ماعت الى اسمه ليعد الناس بالعدالة، ولعل تمثال العدالة العالمي "امرأة معصوبة العينين مستمد من صفة ماعت المصرية".

هذه حضارات نشأت في المنطقة، والعرب لم يكونوا خارج هذه الثقافة عندما ألهوا الإناث كاللات والعزى ومناة، كيف يتفق هذا التأليه للإناث مع وأد الإناث؟!

Ad

المشكلة أن الدعاة لا يكترثون بقوانين حقوق الإنسان العالمية، ويتجاهلون عن عمد الدستور الكويتي الذي ينص في مادته (29) على: "أن الناس سواسية في الكرامة الإنسانية لا تميز بينهم بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين"، وهل هناك كرامة إنسانية بلا حقوق، والدستور الكويتي يضاهي دساتير الدول المتقدمة لكنه غير مفعل.

يقول الكاتب علي الياسين إن قانون الأحوال الشخصية مظهر من مظاهر اندماج رجال الدين ورجال القانون، وهو الحصن الأخير الذي ظلت عقلية التخلف تتشبث به وتقاتل عنه قتالا عنيدا.

كل هذا والغناء والشعر يصدح بمنزلة الأم، ولكن المجتمع يخادعها ويخبرها أن الله كرمها والجاهلية تئدها، والدعاة يحاصرونها من كل جانب. أحدهم غضب وثار بسبب تعيين نساء قضاة، حيث صرح "لا يصح أن تكون المرأة قاضية يقول جمهور الفقهاء"، وانتهى في فتواه إلى أنه إذا حدث وكانت المرأة قاضية أو حاكمة وأصدرت حكما "نقول في مثل هذه الحالات يعتبر الأمر بلوى لا مفر منها".

وداعية آخر في قطر يضع أمامه طفلا يضربه ليعلم مريديه كيف يضرب الرجل المسلم المرأة بالحسنى من أجل تأديبها لأن الرجل رب الأسرة وعليه أن يؤدبها، ونائب سابق يزهو أن أحد إنجازاته عندما كان نائبا هو التصويت ضد حقوق المرأة السياسية، ونائب حالي يقول "إذا تم تجنيس أبناء الكويتية يصبح لدينا 90 هوية"، وهو بالطبع يتجاهل ما يجلبه الرجال من نساء غريبات إلى المجتمع ويتم تجنيسهن بقوة القانون، ويتجاهل أيضا ولادة أطفال يتحدثون لغات أمهاتهم.

ويتم دمج هؤلاء النساء في المجتمع الكويتي ويُمنحن حقوق المواطنة كافة ويحصلن على المخصصات سواء كنّ في الكويت أو في بلادهن الأصلية، والمجتمع الذكوري يعامل هؤلاء النسوة باعتبارهن مواطنات صالحات في حين أن أبناء المرأة الكويتية غرباء في وطن الأم.

ومن عباءة رجال الدين ورجال القانون ولدت القوانين الوضيعة التي تسحق النساء وتحرمهن من حقوقهن الإنسانية لأن الدعاة يعتقدون أن ظلم النساء في المجتمعات الإسلامية ثابت وجزء من قوانين الطبيعة تماما مثل دوران القمر والأرض حول الشمس.

الدعاة يتجاهلون تاريخ المرأة العربية وموقفها في التراث، وكان في نساء العرب في الجاهلية حاكمات اشتهرن بإصابة الحكم وفصل الخصومات وحسن الرأي، منهن مثلا صحر بنت لقمان، وهند ابنة الخس، وجمعة بنت حابس الإيادي، وخصيلة بنت عامر الظرب العدواني، وحذام بنت الريان.

هذا يعني أن احتقار المرأة لم يأتِ من الجاهلية كما يدّعي الدعاة، فقد كانت المرأة في مواضع متعددة الواسطة بين الإله والإنسان، ويظهر من نصوص المسند القديمة أن معبد الإله "عم" في ريمت في اليمن كان عليه قاضية، أي أن عندها علم الغيب وهذه المنزلة أعلى من منزلة القاضية، وعند عرب الشمال أيضا كاهنات منهن سوداء بنت زهرة بن كلاب، فكانت كاهنة قريش وهي التي قالت لبني زهرة "إن فيكم نذيرة أو تلد نذيراً"، وخبرت أن "آمنة بنت وهب هي تلك المرأة". (الروض الآنف أبو القاسم السهيلي 2/ 305).

هذا وقد أشارت الباحثة هاتون الفاسي أن المرأة فقدت الكثير من حقوقها في ظل القانون اليوياني الروماني قبل دخول الإسلام وقد تم الإبقاء على هذه المعوقات اليونانية الرمانية في ظل الإسلام.

يقول الفيلسوف ابن رشد والذي أثرت أفكاره في نهضة أوروبا، ولم تؤثر فينا إطلاقا "الرجل لدينا لا يفكر بحقوق الإنسان لأن نشأته حرمته من هذه الميزة، ولم يذكّره الدعاة بهذه القيمة الإنسانية فهو يفكر في حقوقه حصراً".

المفروض أخلاقيا أن العقائد تعدل مسارات اجتماعية ضارة ولا تأتي من أجل تفضيل طرف على طرف آخر من أجل قطف ثمار الدخول في عقيدة معينة، والدعاة يتجاهلون قول النبي محمد صلى الله عليه وسلم "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وهذا القول هو لب العقيدة، وهو الثابت في الرسالة وهو الشامل في الهداية، وما عداها معاملات تتغير وتتحول حسب الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

كانت الدعوة بحاجة لسيوف الرجال فمُيز الرجال آنذاك، وكانت الدعوة أيضا بحاجة لزيادة عدد المسلمين فحاولوا استمالة أصحاب النفوذ بحجة المؤلفة قلوبهم "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ"، وعندما اشتد ساعد المسلمين بدخول الشعوب الأخرى في الإسلام أوقف الخليفة عمر حصة المؤلفة قلوبهم لعدم الحاجة إليهم، وهذا تطور في فهم مقاصد العقيدة.

يتجلى دور المرأة الإبداعي في التاريخ الإنساني حيث تجمع أغلب المصادر على زعامة المرأة للقبيلة قبل الرجل فيما يعرف بعصور الأمومية "Matriarchal Ages" لذلك نجد أسماء الإناث تتكرر في أسماء القبائل العربية، ولكن زاد من غرور الرجل امتلاكه للقوة المادية والأسلحة، والدعاة مع الأسف يصرون على عزل وضع المرأة العربية عن وضع النساء في العالم، واعتبار حصرها والاستخفاف بحقوقها ميزة يجب أن تعتز بها وتحافظ عليها، وبعض الدعاة يخلط بين غضبه وغضب الله، ويعتقد أن الله يقف معه حتى في أنانيته وغطرسته وظلمه لمن لا عضلات له.

ديوان أشعار العرب يخبرنا كيف كانت منزلة المرأة في قلب كل عربي ومبعث إلهام للشعراء، حيث التزمت جميع القصائد نهجاً واحدا في تقديسها وتمجيدها والفخر بها، وحتى الشاعر أبو مليكة بن أوس بن مالك العبسي المشهور بالحطيئة، والذي كان يهجو كل الناس حتى هجا نفسه لكنه أيضا قدس المرأة في شعره:

ألا حبّذاً هندٌ وأرضٌ بها هندُ

وهِنْدٌ أتى مِنْ دُونها النَّأْيُ والبُعْدُ

لذلك نجد أشد الناس حاجة إلى التوعية والتنوير هم أشدهم عداوة لأي بادرة تنويرية.

د. سناء الحمود