هل لقاحات كورونا آمنة؟... الاقتصاد يجيب

• معايير مشددة تحكم العلاقة بين شركات الأدوية وهيئات «الصحة» الناظمة
• الإنفاق التاريخي على الأبحاث وتطور تكنولوجيا mRNA سرّعا إنتاج اللقاحات

نشر في 11-03-2021
آخر تحديث 11-03-2021 | 00:07
محمد البغلي
محمد البغلي
يدور جدل عالمي تتأثر به الكويت، بطبيعة الحال، بشأن مدى مأمونية اللقاحات المكتشفة لفيروس كوفيد 19 وفاعليتها، ويتأرجح هذا الجدل بين أسئلة مستحقة، مثل كيفية التوصل إلى مجموعة متعددة من اللقاحات ذات نسبة الوقاية التي تتجاوز 90 بالمئة، وذلك في زمن قياسي، مع فرضيات مؤامراتية لا يصدّقها العقل، ولا يقبلها المنطق، كفرضية أن اللقاح يؤدي إلى زراعة شريحة تتحكم بالإنسان عن بُعد!

ورغم أن الأسئلة عن موضوع اللقاح وشرح مأمونيته بالأصل مسألة طبية، فإن ثمة أجوبة يقدّمها لنا مجتمع المال والأعمال لا تقل أهمية عن أجوبة أهل الطب، فمثلاً على من يشكك في جودة إنتاج اللقاحات أن يفهم الإجراءات البروتوكولية الخاصة بشركات الأدوية الكبرى عند إنتاج أي لقاح أو دواء جديد في العالم، خصوصا من الولايات المتحدة أو أوروبا، الأمر الذي يتطلب إتمام معايير التجارب المختبرية وقبل السريرية «على الحيوانات»، ثم السريرية بمراحلها الثلاث المتتابعة، وفق قواعد منظمة صارمة تضعها هيئات ناظمة، لا شركات الأدوية.

وهذا ما حدث بالفعل، وتحديدا لدى هيئة الغذاء والدواء الأميركية (FDA) وهيئة الأدوية الأوروبية (EMA)، وهما هيئتان تمارسان أعمال الرقابة والإشراف على شركات الأدوية، ورخّصتا لقاحات عالمية ذاع صيتها أخيرا، مثل موديرنا وفايزر- بيونتك وجونسون آند جونسون وإكسفورد - أسترازينيكا.

سلطة هيئات الأدوية

بل إن هيئات الأدوية الأوروبية والأميركية، وهي جهات حكومية معنيّة بالصحة العامة، لا شركات الأدوية، هي التي تحدد طريقة الاستخدام إن كان طارئا أو عاديا، وهي تحدد أيضا الشرائح العمرية المناسبة لكل لقاح، ولها أن تسحب ترخيص أي لقاح أو دواء إذا ثبت عدم فاعليته أو ضرره، فضلاً عن صلاحياتها الواسعة في إعادة حتى أي مرحلة من مراحل التجارب إذا لم تستوفِ المتطلبات الصحية والوقائية المعتمدة.

هذه العلاقة التي تتضح فيها معايير الحوكمة بين الهيئات الرسمية الناظمة كهيئات الصحة الأوروبية والأميركية وشركات الأدوية تقلل الى حد كبير من الشكوك الخاصة بوجود تلاعب من هذه الشركات في جودة اللقاحات، وإلا لكان التلاعب قديما جدا وعلى مختلف أنواع الأدوية واللقاحات بفرضية رغبة الشركات في التلاعب، وعدم وجود سلطة رادعة من الهيئات الناظمة.

سرعة اكتشاف اللقاح

لكن السؤال الأكثر إلحاحا في مسألة الشك تجاه فاعلية اللقاحات يدور حول كيفية اكتشاف اللقاح لمرض فاجأ البشرية بشكل مباغت في غضون أشهر قليلة.

ورغم الوجاهة التي يحتويها هذا السؤال، فإنه من المفيد فهم مجموعة من الإجراءات الجديدة في عملية مواجهة تفشي الفيروس، وأهمها الإنفاق غير المسبوق عالمياً على أبحاث إنتاج اللقاح بما يتجاوز 14 مليار دولار ممولة بالدرجة الأولى من حكومات متعددة، وثم مؤسسات غير ربحية وأخيرا شركات خاصة بالتزامن مع تقديم كل التسهيلات لمراكز الأبحاث لتسريع اكتشاف اللقاح وفق ضوابط الهيئات الدوائية، وبالطبع هذه «الفزعة» العالمية لمواجهة فيروس كوفيد 19 لم تتوافر مثلا لمواجهة فيروسات أخرى كفيروس HIV الخاص بمرض الإيدز، نظرا لطبيعة انتشار كل منهما واختلاف درجات إمكانية الوقاية منهما، ناهيك عن تباين مستوى ضررهما على الاقتصاد والحياة العامة في مختلف دول العالم، مما أعطى أولوية بالغة لدعم أبحاث مواجهة «كوفيد 19» على ما عداه من فيروسات.

كذلك ليس من المنطقي الاعتراض على سرعة إنتاج لقاحات لفيروس كوفيد 19، مقارنة مثلاً بالسنوات التي احتاجها العلم للتوصل إلى لقاحات أمراض سابقة كالجدري أو الدفتيريا أو الكوليرا أو الطاعون أو التيفوئيد أو السل، وهذه أمراض معظمها انتشر في النصف الأول من القرن الماضي في ظل إمكانات تكنولوجية محدودة وحياة معيشية يغلب عليها الجهل وضعف الوعي.

ثورات التكنولوجيا

لذلك فمن الموضوعية مناقشة مسألة سرعة إنتاج اللقاحات من زاوية ما حدث من ثورات تكنولوجية خلال الـ 20 سنة الأخيرة قلبت موازين راسخة لسنوات طويلة في السلوك الاجتماعي والبشري، فعندما تتضاءل أهمية قاعات الاجتماعات التقليدية لمصلحة منصة «zoom»، وتصبح شاشة «نتفليكس» منافساً لصالات السينما التقليدية، وتتأثر أعمال شركات البريد بالتوازي مع نمو التراسل الإلكتروني «e-mail»، ويقوم الـ «iCloud» بمقام الطوابق المتعددة من الأرشيف، بل تتحول كبريات شركات النفط التقليدية للاستثمار في الطاقة المتجددة، فإنه من المفهوم جدا - بالقياس على ما سبق - فهم الأثر الذي فعلته تكنولوجيا الحمض النووي (mRNA)، مثلاً، في عملية تسريع اكتشاف اللقاح... وهنا نتحدث عن قياس لأثر تسارع تكنولوجي غير مسبوق في تاريخ البشرية على مختلف أوجه الحياة، وليس نقاشا علميا لطبيعة عمل تكنولوجيا mRNA التي تحتاج إلى مختصين في مجالها.

سلطة أسواق المال

لعلّه من المفيد القول إن شركات الأدوية المنتجة للقاحات، خصوصا في الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي، تخضع لسلطة أخرى غير سلطات هيئات الدواء، وهي سلطة أسواق المال، لكون معظمها ذات أسهم مدرجة في البورصات العالمية، ويمثل الإفصاح عن خطوات إنتاج اللقاح وميزاياه وعيوبه جانبا مهما من المعلومات الجوهرية التي لا تتساهل فيها بورصات على وزن بورصة وول ستريت أو لندن أو مختلف البورصات الأوروبية، ناهيك بالمسؤولية القانونية والأدبية تجاه المساهمين ووسائل الإعلام إن أفصحت عن معلومات غير دقيقة أو حتى غير مكتملة، مما يجعل إفصاحات شركات الأدوية عن مراحل وإنتاج اللقاح بمنزلة شهادة أخرى عن مأمونيته وسلامته.

وهم الأرباح الطائلة

واحدة من أكثر الشائعات انتشارا بشأن عدم جودة اللقاحات، هي أن شركات الأدوية تسعى إلى تحقيق أرباح قياسية وطائلة من بيع اللقاحات للدول، بغضّ النظر عن مأمونيتها، وهذا القول باطل شكلاً ومضموناً، فمن حيث الشكل ليس من مصلحة أي من الشركات الكبرى للأدوية في العالم كـ «فايزر» و»جونسون آند جونسون» أن تغامر بسمعتها في قطاع بالغ الحساسية كالأدوية، وفي مرض واسع الانتشار مثل كورونا، مما يصيب سمعتها على المدى البعيد بمقتل، ناهيك بأن جامعة أكسفورد، المطور المشترك للقاح بالتعاون مع شركة أسترازينيكا، تعدّ من أكبر جامعات العالم في جودة الأبحاث، وهي الأخرى لن تغامر بسمعتها البحثية في إنتاج لقاح غير مأمون، أما شريكتها أسترازينيكا فقد أعلنت أنها ستبيع لقاحها بسعر التكلفة خلال زمن الجائحة.

أما من حيث العمق، ففكرة تحقيق أرباح خيالية من اللقاحات تبدو غير دقيقة، خصوصا أن المتوافر حاليا من لقاحات يصل عدده إلى 10 لقاحات يقابلها تجارب للقاحات منافسة في المراحل السريرية حول العالم يصل عددها الى 50 لقاحا، من المتوقع اعتماد 20 لقاحا منها خلال العامين الحالي والقادم، مما سيخفّض الأسعار وفق منطق أي سوق، وهو العرض والطلب، فضلاً عن عدم وجود ما يجزم طبياً بأن الإنسان سيحتاج إلى أخذ اللقاح مرة واحدة أو أكثر من مرة سنويا.

هذه العوامل تحد من أي ارتفاعات مفترضة لأسعار اللقاحات حول العالم، وفقا لمعايير العرض والطلب والحاجة المؤكدة أصلا للتصنيع.

نظريات المؤامرة

بالطبع لا تخلو مسائل اللقاحات من «نظريات مؤامرة» يصعب حتى مجرد التفكير في سلامتها كزرع شريحة في جسم الإنسان، لكن أيضا ثمّة نظريات ربما يعتبرها البعض وجيهة من حيث الشكل على الأقل، كأن يفترض البعض أن فيروس كورونا من صنع مافيات شركات الأدوية في العالم، وهذا القول يستلزم بنفس المنطق التساؤل عن سبب صمت مافيات شركات «الطيران والنفط والسياحة والعقار والبنوك» ومختلف الأنشطة الأخرى التي تكبدت خسائر غير مسبوقة تاريخيا، بسبب مافيا شركات الأدوية المفترضة.

كذلك يجنح البعض للقول إن فيروس كورونا جاء ضمن الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وهو أمر ينفيه المنطق، لكون طرفي هذه الحرب تكبدا أكبر خسائر في العالم من الناحية الاقتصادية، فالناتج المحلي الإجمالي للصين سجل أدنى مستوى نمو خلال 20 عاما، إذ نما 2.3 بالمئة فقط في 2020، أما اقتصاد الولايات المتحدة فقد سجل انكماشا بنسبة 3.5 بالمئة في 2020، وهو أسوأ أداء منذ 1946، وكانت خسائر البلدين على مستوى البطالة والصادرات على أعلى المستويات عالميا.

في مواجهة أزمة عالمية غير مسبوقة، ليس من المستغرب أن يجند العالم كل خبراته وإمكاناته لمواجهة هذه الأزمة للوصول الى حلّ تمثّل باللقاح الذي تشير اتجاهات الاقتصاد بالتوازي مع منطق العلم الى مأمونيته وسلامته، لكونه مرّ بكل المراحل ذات المصداقية العالية في أسواق المال من خلال إفصاحات شركات الأدوية بالتوازي مع مراكز الأبحاث العلمية والطبية، وباعتماد هيئات ناظمة تتولى مسؤولية الصحة العامة.

إفصاحات شركات الأدوية عن مراحل وإنتاج اللقاح في البورصات العالمية شهادة غير طبية عن مأمونيته وسلامته

ليس من مصلحة الشركات العالمية للأدوية أن تغامر بسمعتها في قطاع بالغ الحساسية وفي مرض واسع الانتشار مثل «كورونا»

فرضية تحقيق شركات الأدوية أرباحاً خيالية بغضّ النظر عن جودة اللقاحات غير واقعية لاعتبارات السمعة والمنافسة

سرعة اكتشاف لقاح «كوفيد 19» مقارنة بـ «الإيدز» ترجع إلى اختلاف انتشارهما وإمكانية الوقاية منهما وتباين ضررهما على الاقتصاد والحياة العامة
back to top