إذا قاد رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، حزب المحافظين في أي انتخابات أخرى، فلا مفر من أن تطغى طريقة تعامله مع أزمة كورونا على هذا الاستحقاق، فقبيل حملة التلقيح الفاعلة التي أطلقتها حكومته، كان عدد المدافعين عن أداء جونسون محدوداً، حيث سجّلت بريطانيا حالات وفاة تفوق معدلات معظم الدول الأوروبية الأخرى خلال موجات الفيروس المتلاحقة وفرضت تدابير أكثر صرامة لإقفال البلد بالكامل، وبرأي منتقدي جونسون، لم يكن هذا الوضع مجرّد حظ سيئ بل إنه يتماشى مع شخصيته الغريبة ومقاربته العشوائية في حُكم البلد عند حرمانه من دوره المفضّل كناقل للأخبار الإيجابية.

وجد مناصرو جونسون صعوبة في الدفاع عن مهاراته الإدارية بسبب تحركاته الشائبة، لكن يمكن الدفاع عنه لسبب آخر يجب أن يأخذه الرأي العام البريطاني بالاعتبار. قد لا تتعلق المشكلة الفعلية بسوء أداء جونسون خلال أحدث أزمة وطنية فحسب، بل إن منصب رئاسة الحكومة أصبح شائباً في الظروف الطبيعية وبغض النظر عن هوية رئيس الوزراء.

Ad

تسارع التخبّط المرافق لمنصب رئاسة الحكومة خلال عهد مارغريت ثاتشر المحافِظة قبل ولاية ديفيد كاميرون، بين عامي 1979 و1990، ومن خلال التشجيع على مهاجمة كفاءة الدولة البريطانية، شاركت ثاتشر في تدهور وضع الدولة التي أصبحت في نهاية المطاف عاجزة عن التعامل مع تحديات كبرى مثل فيروس كورونا المستجد، فأقنعت ثاتشر نفسها بأن المؤسسات السياسية في بريطانيا متورطة في تراجع البلد بعد حقبة الحرب، أو ربما أمعنت في ترسيخ ذلك التراجع عمداً، فاعتبرت البيروقراطيين غير المُنتَخبين من أسهل الجهات التي يمكن أن يستهدفها الإصلاح وسرعان ما أطلقت هجوماً مدروساً ضدهم. مع مرور الوقت، تحوّل موظفو القطاع العام إلى جهات تنفّذ نزوات الحزب الحاكم في أي مرحلة من المراحل بعدما كانوا يهتمون بتحقيق المصلحة الوطنية على المدى الطويل.

كان جزء من عملية تفريغ الدولة البريطانية مؤسسياً بطبيعته، فقد انقسمت الدوائر الحكومية إلى عدد من الوكالات شبه المستقلة لزيادة مستوى الكفاءة ظاهرياً، لكن الوزراء المُنتخَبين كانوا المستفيدين الوحيدين من هذه العملية، فهم يستطيعون الآن أن يُحمّلوا الآخرين مسؤولية الأخطاء الفادحة داخل وزاراتهم. في الوقت نفسه، أدى تراجع السيطرة المباشرة على النتائج السياسية إلى منع رؤساء الحكومات المُنتَخبين من إثبات دورهم الإيجابي في السياسات التي تُحقق أهدافهم المعلنة، ونتيجةً لذلك، كان منطقياً أن يساوي الوزراء في مرحلة معينة بين النجاح والردود الإعلامية الإيجابية على السياسات المعلنة على المدى القصير. وبدل استشارة الموظفين الحكوميين من أصحاب الخبرة والمعارف، فضّل الوزراء حصر نقاشاتهم مع المستشارين الخاصين والمتحدثين الرسميين الذين يتلقون أجورهم من جيوب الناس لإرضاء غرورهم، فقد بدأت هذه النزعة في عهد مارغريت ثاتشر لكنها بلغت ذروتها خلال عهد توني بلير (بين 1997 و2007) الذي وجّه تصرفات أعضاء إدارته حين أبلغ الجميع بأنه يريد أن يرتبط اسمه دوماً بالأخبار الإيجابية.

لا تقتصر مظاهر إضعاف سلطة الدولة على بريطانيا في عالم الديمقراطيات الليبرالية، لكنها أكثر وضوحاً في هذا البلد لأن الدولة البريطانية (على عكس نظرائها في القارة الأوروبية) كانت معروفة بأدائها العالي في زمن الحرب ولم يختفِ هذا الانطباع إلا بعد مرور وقت طويل. وحتى خلال عهد ثاتشر، كان الوزراء شخصيات معروفة تحظى باحترام الرأي العام وبقي الكثيرون مقتنعين بأن الحكومة البريطانية تعرف مصلحتهم أكثر من أي جهة أخرى.

منذ ذلك الحين، ضعفت الحقائب الوزارية تزامناً مع إضعاف الدولة، ونتيجةً لذلك، أصبحت أشهر الشخصيات في عهد جونسون الأكثر عرضة للسخرية اليوم بسبب المواقف غير المدروسة أو السياسات الفاشلة. لقد تلاشت الفكرة القديمة القائلة إن رئيس الوزراء البريطاني يُفترض أن يكون «الأول بين الأعضاء المتساوين الآخرين» ضمن نظام حكومي فاعل، نظراً إلى تلاحق التطورات التي يعجز أي سياسي مرموق عن مقاومتها. وحدها وزارة الخزانة البريطانية لا تزال تحتفظ بجزء من سمعتها لأن قراراتها تؤثر في الرأي العام مباشرةً بدل تنفيذها عبر شبكة من المؤسسات المتفرقة التي تلتزم باقتراحات الوزير حيناً أو ترفضها أحياناً.

حين خسرت الحكومة البريطانية سمعتها فردياً وجماعياً، أصبح رئيس الوزراء من الشخصيات الدائمة في التغطيات الإعلامية للسياسة البريطانية، لكن من دون أن يتمتع بحد أدنى من النفوذ كي يحقق توقعات الرأي العام، ففي المقام الأول، باتت شعبية رئيس الوزراء تُعتبر عاملاً أساسياً لتقييم الحظوظ الانتخابية لحزبه، كذلك، تزامن تفريغ الدولة من قدرتها على الحُكم مع تغيرات ديمغرافية بارزة أدت إلى انهيار الرابط القديم بين الطبقة الاجتماعية والولاء الحزبي، وبما أن عدداً صغيراً من الناخبين اليوم يدعم تلقائياً الحزب الذي يُفترض أن يحقق مصالح طبقته الاجتماعية، يُحدد الناخبون خياراتهم بناءً على مستوى الكفاءة، وبعبارة أخرى، يكون تحليل صفات الخصوم أفضل طريقة لتقييم الأحزاب المتنافسة.

تحتفظ بريطانيا حتى الآن بنظام حُكم برلماني، لكنها بدأت تجري انتخابات مستوحاة من النظام الرئاسي منذ عام 1979، فكان الحدث المحوري الذي مهّد لهذا التحول يتعلق بتنظيم مناظرات متلفزة بين القادة في عام 2010، وبقيت الجلسات الأسبوعية لاستجواب رئيس الوزراء جزءاً من عمل البرلمان ظاهرياً، لكنها اتخذت منحىً رئاسياً لحصد الدعم الانتخابي عندما بدأت شاشات التلفزة تنقل جلسات مجلس العموم في عام 1989. أتمّ جونسون مهمته وحوّل تلك الجلسات إلى نسخة أسبوعية من المناظرات الانتخابية بين القادة حين رفض الإجابة عن أسئلة السير كير ستارمر، زعيم المعارضة من «حزب العمال»، وفضّل أن يسأل ستارمر عما كان ليفعله لو استلم حزبه السلطة.

مقارنةً بالوضع الذي كان قائماً قبل عام 1979، أصبحت بريطانيا اليوم دولة غير مبنية على سياسة الحزبَين، فوحدهم المستفيدون من استمرار النظام الذي يدفع الناخبين الأكثر اطلاعاً على الوضع إلى التصويت ضد الحزب الذي يمقتونه يعارضون التمثيل النسبي في الانتخابات العامة. يُفترض أن يخوض أي رئيس وزراء كفء حملته الانتخابية بكل حماسة بناءً على وعود الإصلاح (على عكس ديفيد كاميرون الذي عارض أبسط تعديل في نظام التصويت بأغلبية فردية خلال استفتاء عام 2011)، بما أن الحملات الانتخابية المباشرة في الظروف الراهنة ضد زعيم المعارضة تعكس شكلاً من التحقير الذي يسيء إلى طريقة حُكم البلد.

حين تنتهي الأزمة العالمية الراهنة، يجب أن تلغي الأحزاب أيضاً عادة اختيار زعيمها من أعضاء الحزب المنتمين إلى القاعدة الشعبية. هذه الإصلاحات التي تبنّاها الحزبان البريطانيان الأساسيان منذ عام 1979 في محاولة يائسة منهما لإرضاء أعضائهما لم تنجح في رفع معنويات الناخبين العاديين الذين يواجهون اليوم استحقاقات يتنافس فيها المرشحون على انهيار شعبيتهم، كما حصل في الانتخابات العامة في ديسمبر 2019 بين بوريس جونسون وجيريمي كوربين.

يُصِرّ مناصرو جونسون حتى الآن على أن الناخبين البريطانيين تجنبوا أسوأ خيار حين فضلوا رئيس الوزراء الراهن على زعيم «حزب العمال» السابق، لكن حبذا لو أمضى عدد إضافي من المراقبين الموضوعيين فترة العزلة القسرية التي فرضها الإقفال المتكرر بقرارٍ من جونسون وهم يتساءلون عن اختلالات النظام التي جعلت من أشخاصٍ غير مؤهلين، مثل جونسون وكوربين، جزءاً من المرشحين المحتملين لأعلى منصب في السياسة البريطانية. وحبذا لو حلل هؤلاء الأسباب التي تبرر تراجع توقعات الرأي العام من الحكومة والقادة طالما تصمد مسيرة جونسون السياسية رغم تعامله الكارثي مع وباء كورونا.

● مارك غارنيت – فورين بوليسي