جايتو جازدانوف... اكتشاف متأخر!
كتبت في هذه الزاوية بتاريخ 17 فبراير الماضي، أن من أراد أن يتعلّم كتابة قصة قصيرة مبدعة، فيمكنه الوثوق بتجربة الكاتب الإسباني خوان خوسيه ميّاس، وأن يتعلّم منها الكثير.وها أنا أكتب اليوم، وتحديداً للشباب من الكاتبات والكتّاب، أن من أراد قراءة درس عملي في كتابة الرواية المبدعة، فعليه بقراءة رواية Gaito Gazdanov جايتو جازدانوف (1903 - 1971) المعنونة بـ "طيف ألكسندر ولف The Specter of Alexander Wolf، والتي نشرها الكاتب في طبعتها الفرنسية الأولى عام 1947/ 1948. مع الأسف لم يعرف قراء العربية الكثير عن أعمال القاصّ والروائي والصحافي جايتو جازدانوف، وهذه الرواية التي نُشرت بترجمتها العربية عن دار الكرمة القاهرية، بطبعتها الأولى 2018، هي الرواية الوحيدة المترجمة للكاتب، وهي إذ تجمع بين تشويق رواية السيرة الذاتية وحبكة الرواية البوليسية، فإنها تأتي مضفورة بالتشويق ومليئة بمعاني الحياة.
ومنْ يبحث في سيرة حياة الكاتب جازدانوف، المولود في سانت بطرسبورغ، والذي حارب ضد الشيوعيين، وهاجر إلى تركيا ثم بلغاريا، حتى استقر في باريس عام 1923، يكفي أن يعرف أنه عمِل "حمّالاً، ومنظف عربات القطار، وميكانيكياً في مصنع سيتروين، ومدرِّس لغة فرنسية، ولغة روسية، كما عمل سائق سيارة أجرة ليلي لأكثر من خمس وعشرين سنة" (ص223). أرددُ عن قناعة؛ هناك من يولد تحت نجم السعد، وهناك منْ يُولد متعوساً ويعيش ويموت متعوساً. وأنا هنا أتكلم عن بيئة ومجال الفكر والأدب والكتابة. فهناك كاتب ينشر عملاً واحداً ويلتفت العالم إليه، كما هي الحال مع صاحب رواية "العطر" الألماني باتريك زوسكيند، وهناك كتّاب، كتبوا أعمالاً أدبية عظيمة، لكن لسبب أو لآخر، كان الحظ بعيداً عنهم، فعاشوا وماتوا وهم في الظّل والتعاسة! ومؤكد أن حظّ كاتبنا جازدانوف ضمن الفئة الثانية. فهو بالرغم من أنه درس في "السوربون" تاريخ الأدب، والألسن، وعلم الاجتماع، فإنه - لسبب قدري - أُهملت أعماله أثناء حياته، لينتبه العالم إليها ويبجّلها ويعتبرها أعمالاً خالدة، بعد أن مات جازدانوف متعوساً!رواية "طيف ألكسندر ولف" واحدة من الروايات التي تعرف تماماً كيف تمسك بالقارئ، ومع الجملة الأولى والسطر الأول، يجد القارئ نفسه مُقاداً بحبل السرد والتشويق وبحكاية البطل، التي سرعان ما تتحول لتكون حكايته هو، لأن الرواية مكتوبة بصيغة ضمير المتكلم، وهي رواية صغيرة (221 صفحة)، خاصة أن جازدانوف يمتلك معرفة كبيرة ومتعمّقة يتمكّن من خلالها من الغوص في دواخل النفس البشرية، وبما يجعل النص قطعة من التشويق بمنعطفات مشاعر الإنسان!الرواية تحوي ثلاث حكايات متداخلة ومتّصلة فيما بينها، تتمثّل الأولى في إطلاق الراوي النار على شخص لا يعرفه، ويرديه قتيلاً، ويحمل عذاب الضمير معه طوال وقته، ولحين يعثر على مجموعة قصصية، يشعر من خلالها أن كاتبها ألكسندر ولف هو الشخص نفسه الذي أطلق النار عليه، فيصرخ فيه السؤال: هل الرجل لم يمت؟ وهل هو صاحب المجموعة القصصية المعنونة بـ: «سآتي غداً»؟الحكاية الثانية في الرواية، هي التقاء هذا الراوي، بالسيد فوزنيسنسكي، ليكتشف أنه صديق للكاتب، وبقدر ما يتفجّر شوقه لمقابلة الكاتب، للتأكد من أنه الشخص ذاته الذي أطلق النار عليه، وتأتي الحكاية الثالثة بتعرّف الراوي على سيدة تأخذ قلبه. وتسير الحكايات الثلاث متضافرة لتعرية مشاعر وأعماق النفس البشرية، ولحين يلتقي الراوي بالكاتب، ويتحقق من أنه هو الشخص ذاته الذي أطلق عليه النار، وتقع المكاشفة بينهما، ويُكمل جازدانوف سرده الآسر في تشتّت قلبه بعشيقة مختلفة، التي تلمّح له بتعرّفها على شخص عشقته حتى لم تستطع منه فكاكاً، وتأتي الخاتمة بأن يزور الراوي حبيبته، ويسمع صراخ عراكها مع شخص في غرفة نومها، ويركض ليساعدها بإطلاق النار على ذلك الشخص، الذي يتبين فيه لاحقاً أنه ألكسندر ولف!الرواية تصعد بالقارئ إلى مرتفعات عالية من السرد والحبكة. لكن ما يؤخذ عليها أنها تقوم في أكثر من حكاية على المصادفة، وهذا ليس في مصلحة أي عمل إبداعي!