سواسية أمام القانون
تميزت الأشهر الأولى من هذا العام بنشاط ملحوظ للمحاكم الفرنسية في الدعاوى التي نظرت فيها والمتعلقة بسياسيين تتم محاكمتهم عملا بمبدأ سيادة القانون الذي يسري على الجميع سعيا للإنصاف وتحقيق العدالة من دون تمييز، وهي سمات تسعى الدول الأوروبية للمحافظة عليها.ولعلنا في هذه العجالة نبدأ بالمحاكمات التي مثل فيها الرئيس الفرنسي السابق (نقولا ساركوزي)، والذي أصبح مواطنا عاديا منذ أن خسر الانتخابات الرئاسية عام 2012 حين فاز بها (فرانسوا هولاند) الذي بقي في الحكم لفترة رئاسية واحدة ليتم في عام 2017 انتخاب (إيمانويل ماكرون) ولمدة خمس سنوات، كرئيس ثامن للجمهورية الفرنسية الخامسة التي أسسها الجنرال (شارل ديغول) عام 1958.تعلقت المحاكمة الأولى للرئيس السابق ساركوزي باتهامات له ولمحاميه بالفساد وبالمتاجرة بالنفوذ والمعروفة بقضية (التنصت)، حين سعى إلى الحصول من قاض في محكمة النقض على معلومات سرية تتعلق به، ومن بينها أيضا إلغاء حجز المفكرات الرئاسية بعد إعلان براءته في إحدى القضايا التي نظرت فيها المحاكم الفرنسية، وصدر في أول هذا الشهر، وفيما يتعلق بهذه القضية، حكم بالسجن ثلاث سنوات مع وقف التنفيذ لسنتين في حق ساركوزي.
سيستأنف ساركوزي هذا الحكم، وصرح أيضا بأنه يمكن أن يلجأ إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بعد استكمال كل سبل الطعن الداخلية في حال لم تتم تبرئته من التهم التي وجهت إليه.أما المحاكمة الثانية التي ستبدأ الأسبوع القادم، ومن المرجح أن يتم تأجيلها للشهر الخامس بسبب إصابة أحد محامي الدفاع بوباء كورونا19، وتضامن بقية المحامين معه لطلب التأجيل؛ هذه المحاكمة تتعلق باتهامات لساركوزي ولمجموعة من معاوينه بادعاءات تتعلق بتمويل غير شرعي لحملته الانتخابية لعام 2012، والتي كما ذكرنا خسرها أمام المرشح الاشتراكي هولاند.ونذكّر هنا بأن ساركوزي ليس الرئيس الفرنسي الأول الذي يصدر حكم إدانة بحقه وبعد مغادرته لسدة الحكم! ففي الشهر الأخير من عام 2011، صدر حكم بحق الرئيس الفرنسي السابق (جاك شيراك) بالسجن عامين مع وقف التنفيذ في قضية (الوظائف الوهمية) ببلدية باريس، والتي كشفت أن 26 شخصا تم تعيينهم في هذه البلدية بين أعوام 1986 و1996، وتدفع البلدية رواتبهم وتعويضاتهم، ولكنهم في الواقع كانوا يعملون في مقر حزب (التجمع من أجل الجمهورية) ولصالحه، وهو الحزب الذي أسسه شيراك عام 1976، وشغل شيراك منصب عمدة باريس بين أعوام 1977 و1995.ويجب ألا ننسى أيضا المحاكمة التي جرت هذا الشهر، لرئيس الوزراء السابق (أدوار بالادور)، ووزير دفاعه (فرانسوا ليوتار)، بخصوص الاتهامات التي وجهت إليهما بالقضية المعروفة (كراتشي)، وتعلقت بعض جوانب هذه القضية بالحادثة التي ذهب ضحيتها، في عام 2002، 11 موظفا فرنسيا من إدارة تصنيع السفن، ووجهت لبالادور وليوتار اتهامات بالحصول على عمولات من صفقة بيع سفن حربية، وكان بالادور رئيسا لوزراء فرنسا في عهد الرئيس (فرانسوا هولاند) حين تمت هذه الصفقة، فاستمرت إجراءات المحاكمة عدة سنوات، وتعلقت هذه الاتهامات بشكوك حول تمويلات سرية للحملة الانتخابية لبالادور عام 1995 حين ترشح لرئاسة الجمهورية، وخسر الانتخابات وقتها حيث تم انتخاب (جاك شيراك) رئيسا للجمهورية والذي بقي في هذا المنصب حتى عام 2007، وصدرت الأحكام أخيرا في بداية هذا الشهر، وبرأت (محكمة عدل الجمهورية) رئيس الوزراء السابق، ولكنها أدانت وزير دفاعه وحكمت عليه بالسجن عامين مع وقف التنفيذ، ودفع مبلغ 100.000 يورو. ونذكّر هنا بأن محكمة عدل الجمهورية، هي محكمة خاصة/استثنائية تم تأسيسها عام 1993، بهدف محاكمة الوزراء على مخالفات أو جرائم ارتكبوها في أثناء ممارستهم مهامهم الرسمية. لعل أول ما يلفت النظر في هذه المحاكمات هو تساوي الجميع أمام القانون بغض النظر عن مناصب سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، وهذا يذكرني بكتيب يتم توزيعه على طلاب المدارس في حال تم تنظيم زيارة لهم لما يسمى (قصر العدل)، وقد أخذت نسخة من هذا الكُتيب وقرأته أنا القانوني بكل اهتمام لأرى كيف يتم التعريف بالمحاكم ودورها كسلطة ثالثة من سلطات الدولة بجانب السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، وما الأسلوب المبسط بالرسوم والكلمات لشرح هذا الدور للطلبة، وكان من بين ما تضمنه الكُتيب صورة لسيدة تمثل العدالة تحمل السيف بيد وهو يرمز إلى العقاب، والميزان باليد الأخرى وهو يرمز إلى التوازن، والمهم أن هذه السيدة كانت معصوبة العينين لماذا؟ فكان الجواب لأن العدالة عمياء بمعنى أنها لا تنظر إلى جنس أو لون أو وضع أو حالة من يقف أمامها، فهي لا تميز بينهم لتتم محاكمتهم بكل نزاهة وحياد.واتسمت أيضا كل هذه المحاكمات بتغطية إعلامية واسعة، ومن كل وسائل الإعلام، وتجلت حرية التعبير التي يتمتع بها كل الصحافيين وحتى الأفراد العاديين بكل أشكالها، وكان فضاء التعبير وتبادل الأفكار والآراء واسعا، ولم تقف شخصية من تمت محاكمتهم ولا تاريخهم السياسي ولا دورهم في الأحداث الوطنية أو الدولية، عائقا أمام عرض مجريات الأمور وتفاصيل المحاكمات، مما سمح لكل قارئ صحف ومجلات، ولكل متابع على شاشات التلفزة أو عبر وسائل الاتصال الاجتماعي، ولكل مهتم حسب تخصصه، بالاطلاع على كل التفاصيل والأقوال والتعليقات، بغض النظر عن شخص من وقف أمام المحاكم: رئيس جمهورية سابق، أو رئيس وزراء سابق، أو وزير سابق، فكلهم وأي شخص عادي سواسية أمام القانون.وما يمكن أن نستخلصه أخيراً وليس آخراً من هذه المحاكمات، هو الإمكانية المفتوحة لكل من يعتقد أن محاكم 47 دولة أوروبية طرف في الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان لم تنصفه، باللجوء إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وبالطبع حسب آلية محددة، وشروط أساسية وفي مقدمتها استنفاد كل طرق الطعن الداخلية أمام هذه المحاكم الوطنية التي يبقى لها الدور الأول والأساس للنظر في القضايا التي تتعلق بالحقوق والحريات الأساسية بغض النظر عن أي تمييز كان.* أكاديمي وكاتب سوري مقيم بفرنسا