شدد الرئيس الأميركي جو بايدن في أول اتصال هاتفي جمعه بالرئيس الصيني شي جين بينغ بعد تنصيبه على إعطائه الأولوية "لإبقاء منطقة المحيطَين الهندي والهادئ حرّة ومنفتحة"، ثم كرر الفكرة نفسها أمام رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي وزعيم كوريا الجنوبية مون جاي إن، وفي اتصال بين بايدن ورئيس الوزراء الياباني يوشيهيدي سوجا، أكد المسؤولان أهمية التحالف الأميركي الياباني باعتباره "حجر أساس للسلام والازدهار في منطقة حرّة ومنفتحة".كانت إدارة ترامب قد كثفت مواقفها بشأن آسيا لأن هذه المنطقة تُسهّل إنشاء جبهة ضغط إضافية ضد بكين، أراد المسؤولون في عهد ترامب إيجاد طرق جديدة لزيادة مشاكل الصين في منطقة المحيط الهادئ، وكانوا يظنون أنهم يستطيعون بذلك إبعاد تركيز بكين ومواردها عن مجالات تنافسية أخرى، فحتى الآن، تتبنى إدارة بايدن هذا المنطق على ما يبدو، لكن لم تفكر الإدارتان للأسف بتداعيات أو مخاطر توسيع مساحة المناورات في هذه "اللعبة العظمى" مع الصين.
نسف السلام الآسيوي
من الناحية التحليلية، تتعلق أكبر مشكلة في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ باعتبار شرق آسيا الذي لم يشهد أي حروب منذ عام 1979 جزءاً منها. هذا "السلام الآسيوي" هو نتاج عدد من العوامل، بما في ذلك الوجود العسكري الأميركي المتقدم والتحالفات الأميركية، وانفراج العلاقات بين بكين وواشنطن، والترابط الاقتصادي، والمعايير الإقليمية السائدة والهندسة المتعددة الأطراف، وانتشار الديمقراطية في بعض الأوساط، لذا يُفترض أن يكون السلام وأسبابه في شرق آسيا والمحيط الهادئ من أبرز النقاط المحورية في السياسة الأميركية تجاه هذه المنطقة، وتزيد أهمية هذه المقاربة في ظل تلاشي معظم الأسباب التاريخية للاستقرار خلال السنوات الأخيرة. هل من هدف أهم من تجنب الحرب في أغنى منطقة في العالم وأكثرها اكتظاظاً بالسكان والقوات العسكرية؟لكن من خلال الجمع بين جنوب آسيا وشرق آسيا، لا مفر من أن تُخيّم منطقة المحيطَين الهندي والهادئ على السلام الآسيوي. خاضت الهند وباكستان صراعات متكررة في آخر نصف قرن، مما يثبت أن السياسات المعمول بها في جنوب آسيا لا تتماشى مع تلك المعتمدة في شرق آسيا، فنحن أمام مناورات مختلفة إذاً، تجازف واشنطن بخسارة هذه الرؤية وقدرتها على تعديل سياساتها بالشكل المطلوب حين تتعامل مع جميع التطورات انطلاقاً من منظور موحّد لهذه المنطقة الضخمة وتضع نصب عينيها هدفاً ضخماً واحداً، ولو أنه لا يزال ضمنياً. لا تستطيع الكفاءة السياسية الأميركية أن تعالج المشاكل غير المنظورة، ولا مفر من أن تُحوّل المعادلة المعتمدة في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ السلام الآسيوي إلى بقعة عمياء خطيرة.لكن لن يكون تجاهل السلام الآسيوي مصدر الخطر الوحيد الذي تواجهه واشنطن حين تُوسّع المفهوم الذي تحمله عن آسيا، بل تجازف الولايات المتحدة أيضاً بتوسيع نفوذها في منطقة المحيط الهندي بدرجة مفرطة، إذ تتفوق واشنطن على مستويات عدة وتملك مصالح متنوعة في شرق آسيا والمحيط الهادئ: تشمل هذه المناطق خمسة حلفاء للولايات المتحدة، ولا ننسى هاواي التي تضمّ مقر القيادة الأميركية في المحيطين الهندي والهادئ وإقليم غوام الأميركي. بموجب "اتفاق الارتباط الحر"، تسيطر الولايات المتحدة بشكلٍ حصري على أمن ولايات ميكرونيسيا المتحدة وجزر مارشال وبالاو مقابل نشر قواعدها والوصول إلى الموانئ. هذه التحالفات والالتزامات المدعومة بوجود أكثر من 80 ألف جندي أميركي وعشرات المنشآت العسكرية في منطقة شرق آسيا وحدها تمنح الولايات المتحدة نفوذاً قوaياً في شرق آسيا والمحيط الهادئ، لكن لا تملك واشنطن النوع نفسه من التحالفات أو المسؤوليات أو المصالح في منطقة المحيط الهندي.لهذا السبب، ستواجه الولايات المتحدة مشكلة في حجم مصداقيتها في منطقة المحيط الهندي إذا أرادت أن تخوض الحروب أو تطبّق دبلوماسية الإكراه هناك، ففي ظل غياب الحلفاء أو الأراضي في تلك المنطقة ونظراً إلى تراجع القدرة على بلوغ القواعد والموانئ مقارنةً بأجزاء أخرى من آسيا، ستواجه القوات الأميركية مصاعب متزايدة وتأخذ مجازفات إضافية حين تحاول فرض قوتها العسكرية في المحيط الهندي مقارنةً بأي مناطق أخرى باستثناء مضيق تايوان. نتيجةً لذلك، لا تحمل التهديدات والالتزامات الأميركية في منطقة المحيط الهندي الثقل الذي تتمتع به في أماكن أخرى.يتوقع البنتاغون في العادة أن يتغلب على هذا النوع من المشاكل عبر زيادة التسلح والتمويل بدل تحسين الاستراتيجية المعتمدة، لكن لا يُعتبر الوجود العسكري الأميركي المحدود في منطقة المحيط الهندي مجرّد ثغرة يمكن سدّها، بل يؤثر هذا العامل في المصالح الأميركية في المنطقة مقارنةً بمصالح واشنطن في أجزاء أخرى من آسيا، وسيكون توسيع الوجود الأميركي البحري في المحيط الهندي منطقياً إذا احتاجت الولايات المتحدة إلى الاستعداد لاندلاع حرب مفاجئة هناك، لكن يحصل أبرز صراع تخوضه الصين ضد الهند براً، وتحديداً في الهيمالايا، ولا يؤثر هذا النزاع في المصالح الأميركية. كذلك، لن تقف الصين على الهامش حين تلاحظ أن الجيش الأميركي بدأ يحاصرها، ولتجنب الحرب في المحيط الهندي، تقضي أفضل طريقة إذاً بضبط النفس بدل زيادة أعداد الجنود للدفاع عن خط أحمر غير موجود أصلاً. لن تكون عسكرة هذا الجزء من العالم مفيدة لأي فريق، بل إنها ستزيد التكاليف المترتبة على دافعي الضرائب الأميركيين.ومن خلال محاولة إلهاء الصين أو إضعاف تفوقها في المحيط الهندي، قد تجازف الولايات المتحدة بإلهاء نفسها وإضعاف تفوقها الخاص، ولو أنّ إدارة بايدن ورثت تحالفات سليمة ونظاماً إقليمياً غير متنازع عليه في آسيا، لكانت ستقنع الجميع على الأرجح بضرورة التوسع في الخارج بحثاً عن أماكن جديدة تحتاج إلى استرجاع الاستقرار، لكن دفعت السنوات الأربع الماضية بعدد كبير من حلفاء واشنطن إلى التشكيك بمصداقية الولايات المتحدة وتوسّعت لائحة المسائل الإقليمية المُلحّة، بدءاً من تكثيف الضغوط الصينية على تايوان وصولاً إلى القدرات النووية التي اكتسبتها كوريا الشمالية. كذلك، تشير أحدث استطلاعات الرأي إلى عدم اهتمام معظم الدول في جنوب آسيا بالمنافسة القائمة بين الدول الكبرى بقدر ما تهتم بالتغير المناخي، واللامساواة الاقتصادية، والتعافي الاجتماعي من فيروس "كوفيد19"، مما يعني أن انشغالاتها تتعارض مع أولويات السياسة الخارجية الأميركية في الفترة الأخيرة. بعبارة أخرى، تكثر الخطوات الإصلاحية التي يستطيع بايدن اتخاذها في شرق آسيا والمحيط الهادئ قبل أن ينشغل بتوسيع نطاق المصالح الأميركية.استرجاع التوازن بأقل كلفة
هذه الأسباب كلها لا تبرر إهمال منطقة المحيط الهندي، لكن نظراً إلى تراجع أهمية هذه المنطقة بالنسبة إلى الولايات المتحدة عموماً وتفوّق واشنطن النسبي في أماكن أخرى، وحدها المبادرات التي تكون قليلة المخاطر والتكاليف تُعتبر منطقية هناك. يستطيع التحالف الرباعي (بين أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة) أن يطلق هذا النوع من المبادرات طالما تتماشى توقعاته مع الأحداث على أرض الواقع، وينطبق المبدأ نفسه على القرار الأميركي بمنح معلومات استخبارية إلى الهند خلال مناوشاتها الأخيرة مع الصين في الهيمالايا: إنها خطوة منطقية على افتراض أن المسؤولين الأميركيين يحملون سبباً وجيهاً كي يصدقوا أن تحسين مصادر المعلومات قادر على كبح أعمال العنف. من حق الولايات المتحدة أيضاً أن ترحّب بالتدخل الكندي والفرنسي والبريطاني في المنطقة لأن هذه المبادرة لا تكلّف واشنطن شيئاً وتستطيع تقوية مطالبها تزامناً مع ضبط دوافعها التنافسية المفرطة عن طريق التعددية الديمقراطية.تتقاسم هذه المبادرات عدداً من النقاط المشتركة، فهي لا تُجدد التوازن بأقل كلفة فحسب، بل تُشجّع الدول الأخرى أيضاً على تحمّل مسؤوليات متزايدة للحفاظ على أمن المنطقة. يجب أن تبحث الولايات المتحدة عن طرق فاعلة لتقديم المساهمات المناسبة في المحيط الهندي، مما يعني أن تؤدي دوراً تكميلياً من دون أن تقوم بالتزامات دائمة بدل أن تبحث عن أدوات للسيطرة على الأراضي أو قيادة "العالم الحرّ" أو تحمّل أعباء الدول التي تقف على خط المواجهة ويتأثر مصيرها مباشرةً بطبيعة السياسات المعتمدة في المحيط الهندي. في هذا السياق، يقول مستشار الأمن القومي في عهد بايدن، جايك ساليفان، إن "كل عنصر من تحركاتنا في مجال السياسة الخارجية والأمن القومي يجب أن يُقاس في نهاية المطاف بحسب تداعياته على العائلات العاملة"، لكنّ الإمعان في عسكرة المحيط الهندي وصرف الانتباه عن آسيا لا يلتزمان بهذا المعيار.تشكّل منطقة المحيطَين الهندي والهادئ بناءً تحليلياً يستحق الاستكشاف أحياناً، فقد تشهد هذه المنطقة أحداثاً بارزة ويحتل المحيط الهندي أهمية جغرافية بالنسبة إلى حلفاء واشنطن من أمثال اليابان وأستراليا، لكنّ الموقع الجغرافي للدول الحليفة ليس مرادفاً للموقع الأميركي الجغرافي، ويجب ألا تسمح واشنطن إذاً للغطرسة أو الخوف أو التفكير الجماعي بتشويه تهديداتها ومصالحها وقدراتها. قد تبدو المواقف الشفهية سخيفة وعابرة في حالات كثيرة، لكنّ التصوّر الذي يحمله البلد عن أي ملف له أهمية كبرى، ففي ما يخص منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، قد يؤدي نطاق المصالح الأميركية الذي يساوي بين المحيط الهندي وشرق آسيا برأي البعض إلى كارثة حقيقية.