يقول الحق سبحانه وتعالى في محكم تنزيله: «وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا».أثار حكم المحكمة الدستورية رقم 15 لسنة 2020 الصادر في 14 مارس 2021، بصفتها محكمة موضوع للنظر في منازعات الطعون الانتخابية (1) وكذلك الحكم الصادر من محكمة التمييز الإدارية بتاريخ 3 ديسمبر 2020، وما خلفه الحكمان من تناقض مباشر، حيث فصل كلاهما بموضوع واحد وهو مدى تحقق مانع للترشيح لدى د. بدر الداهوم من عدمه استناداً لما قرره القانون رقم 27 لسنة 2016، (والمعروف باسم قانون المسيء) رغم خروج هذا الأمر عن اختصاص المحكمة الدستورية كمحكمة طعون انتخابية، كما قررت هي في حكمها رقم 28 لسنة 2008، بأنها لا تنظر في القرارات السابقة للانتخاب، وإنما ذلك من اختصاص القضاء الموضوعي المختص (وهو هنا القضاء الإداري)، حيث قررت: «ومتى كان الأمر كذلك، وكان من المقرر أن الطعن الانتخابي منوط – في الأساس – بتعلق الأمر في شأنه بعملية الانتخاب ذاتها وما شابها من أخطاء، سواء في التصويت أو الفرز أو إعلان النتيجة، وما عسى أن ينعكس أثره على صحة عضوية من أعلن فوزه في تلك الانتخابات، وبالتالي فإن ما يتخذ في مسائل القيد في الجداول أو في إجراءات الترشيح من أعمال وتصرفات وما ينجم عنها، هي أمور سابقة – ولا شك – على العملية الانتخابية، وهي أعمال وقرارات صدرت معبرة عن إرادة الجهة الادارية التي أصدرتها ولا صلة لها بالعملية الانتخابية ذاتها، وليس من شأن اضطلاع الجهة الادارية بتلك الأعمال واتخاذها لهذه القرارات، بغض النظر عن مدى سلامتها وتداعياتها، أن يحيل النزاع في شأنها إلى طعن في صحة الانتخابات، وإنما تظل متعلقة بقرارات يُستنهض اختصاص القضاء المختص في أمرها، بحيث لا يستنزف اختصاص هذه المحكمة – بنظر الطعون المتعلقة بعملية الانتخاب بمعناها الفني الاصطلاحي الدقيق، وما يصدر عنها من إعلان إدارة الناخبين اختصاص القضاء المختص (2) من بسط رقابته القضائية على القرارات الصادرة في المراحل السابقة على عملية الانتخاب» كل ذلك أثار حواراً مجتمعياً واسعاً من الناحيتين القانونية السياسية، وأي الحكمين اكتسب حجية صحيحة وواجب التنفيذ... الأمر الذي استلزم أن نضع هذه الدراسة القانونية المختصرة وصولاً للرأي الصائب قانوناً، كما نراه.
أولاً: موضوع حكم التمييز الإدارية
فقد قضت محكمة التمييز الإدارية، في نطاق ولايتها النهائية في قضاء إلغاء القرارات الإدارية، بإلغاء قرار شطب ترشيح الدكتور بدر الداهوم لانتخابات مجلس الأمة التي أجريت بتاريخ 5 ديسمبر 2020. واختصاص القضاء الإداري في هذا المجال اختصاص أصيل يجد سنده في الدستور والقانون. وفي هذا الشأن قررت محكمة التمييز أن "الأصل الدستوري هو أن حق التقاضي مكفول للناس كافة، فيكون لكل ذي شأن حق اللجوء إلى قاضيه الطبيعي بما في ذلك حق التقاضي في المنازعات الإدارية والطعن على القرارات الإدارية النهائية وإخضاعها لرقابة القضاء....... والمشرع إعمالا لنص المادتين 166 و169 من الدستور أنشأ بالقانون رقم 20 لسنة 1981 المعدل بالقانون رقم 86 لسنة 1982 دائرة إدارية بالمحكمة الكلية تختص دون غيرها بالمنازعات الإدارية (حكم محكمة التمييز بتاريخ 28 مايو 2005 في الطعن رقم 294 لسنة 2004 إداري).كما تؤكد المحكمة الدستورية في حكمها رقم 8 لسنة 2008 بأن المحكمة المختصة (وهي محكمة التمييز الادارية) هي من يتولى الفصل في المنازعات السابقة على الانتخابات وخصوصا في مسائل القيد في الجداول أو في إجراءات الترشيح من أعمال وتصرفات وما ينجم عنها هي أمور سابقة – لا شك – على العملية الانتخابية.وتؤكد محكمة التمييز على تخصص الدائرة الإدارية في الفصل بالمنازعات الإدارية، وتميزها بمواعيد وإجراءات وقواعد ورسوم وتبسيط الإجراءات مما يجعلها تختلف عما هو مقرر لغيرها إعمالا لمبدأ التخصص في مجال منازعات القضاء الإداري (حكم محكمة التمييز بتاريخ 5 فبراير 2008 في الطعن رقم 103 لسنة 2006 إداري). وتنص المادة الخامسة عشرة من قانون الدائرة الإدارية على أن الأحكام الصادرة بالإلغاء تكون لها حجية عينية في مواجهة الكافة. وتنص المادة 156 من قانون المرافعات التجارية والمدنية على أنه لا يجوز الطعن بأي طريق من طرق الطعن فيما تصدره محكمة التمييز من أحكام.ثانياً: موقف محكمة التمييز من إمكانية الرجعية بتطبيق القانون رقم 27/ 2016
وأرسى حكم محكمة التمييز الإدارية بإلغاء قرار شطب ترشح د. الداهوم، مبدأ أساسيا، هو عدم جواز تطبيق القانون رقم 27 لسنة 2016 بأثر رجعي على وقائع حدثت قبل صدوره (وهذا ما يعرف بمبدأ شرعية الجريمة)، وبناء على ذلك فإن جزاء الحرمان من الانتخاب، باعتباره عقوبة تبعية، لا ينطبق على الداهوم لأن الوقائع المسندة إليه صدر بشأنها حكم بتاريخ 8 يونيو 2014. وهذا المبدأ منطقي ويتفق مع القواعد العامة في تطبيق القوانين من حيث الزمان، وكذلك مبدأ شرعية الجريمة والعقوبة المقررة في المادة 32 من الدستور الكويتي، لأن العبرة في تطبيق أية عقوبة، أصلية أم تبعية، هي بالقانون المطبق في تاريخ حدوث الفعل محل التجريم (الركن المادي للجريمة) ويخضع لمبدأ شرعية الجريمة كما أشرنا، وليس أي تاريخ آخر لاحق. ومما لا شك فيه أن الحرمان من حق الانتخاب عقوبة تبعية للحكم بالإدانة في الجرائم التي ورد ذكرها بالقانون رقم 27 لسنة 2016، (وهو المعروف باسم قانون المسيء)ثالثاً: مدى جواز الحرمان الأبدي من الحقوق السياسية
إن الحرمان من ممارسة الحقوق السياسية عقوبة تبعية للحكم بالإدانة في بعض الجرائم بالقانون المقارن، ولكنها استثناء ومحدودة، ويكون تطبيقها بأثر فوري، ودائما مؤقتة بأجل زمني تزول بانتهائه أو عند رد الاعتبار أيهما يحل أولا، لأن القانون الذي يقرر الحرمان المؤبد من ممارسة أحد الحقوق السياسية أو غيرها أو إحدى الحريات يعد غير دستوري، فالمشرع يجوز له تنظيم الحقوق والحريات بغير أن يتجاوز حدود سلطته في التنظيم ويصل إلى درجة مصادرتها.وفي هذا الشأن، قضت المحكمة الدستورية في مصر بأنه: "إن كان الأصل في سلطة التشريع عند تنظيم الحقوق أنها سلطة تقديرية، وأن الرقابة على دستورية التشريعات لا تمتد إلى ملاءمة إصدارها، فإن هذا لا يعني إطلاق هذه السلطة في سن القوانين دون التقيد بالحدود والضوابط التي نص عليها الدستور، ومن ثم فإن تنظيم المشرع لحق المواطنين في الانتماء إلى الأحزاب السياسية، ومباشرتهم لحقوقهم السياسية، ينبغي ألا يعصف بهذه الحقوق أو يؤثر على بقائها على نحو ما سلكه النص المطعون عليه، إذ تعرض لحقوق عامة كفلها الدستور، وحرم فئة من المواطنين منها حرماناً مطلقاً ومؤبداً على ما سلف بيانه، مجاوزاً بذلك دائرة تنظيم تلك الحقوق، الأمر الذي يحتم إخضاعه لما تتولاه هذه المحكمة من رقابة دستورية". (حكم المحكمة الدستورية المصرية بتاريخ 21 يونيو 1986 في القضية رقم 56 للسنة القضائية السادسة، وأيضا حكمها بتاريخ 7 مايو 1988 في القضية رقم 44 للسنة القضائية السابعة).رابعاً: حكم محكمة الطعون الانتخابية (المحكمة الدستورية)
أما حكم المحكمة الدستورية الكويتية بتاريخ 14 مارس 2021 ببطلان إعلان فوز الدكتور بدر الداهوم في الانتخابات التي أجريت بتاريخ 5 ديسمبر 2020 في الدائرة الانتخابية الخامسة، وبعدم صحة عضويته في مجلس الأمة، فإنه صدر من المحكمة الدستورية ليس بصفتها (محكمة دستورية)، بل بصفتها محكمة موضوع (محكمة طعون انتخابية)، بناء على قانون المحكمة الدستورية رقم 14 لسنة 1973 واستنادا للتفويض الدستوري الممنوح من مجلس الأمة، إعمالا بسلطته التقديرية المقررة بالمادة ٩5 من الدستور، وهو المستقر بأحكام المحكمة الدستورية ذاتها بخصوص كونها محكمة طعون انتخابية كما في حكمها بالطعن رقم 8 لسنة 2008.وقررت المحكمة الدستورية (بصفتها محكمة طعون انتخابية) أنه "سمح للمرشح بخوض الانتخابات وهو فاقد لشرط من شروط الترشح "وان" إرادة الناخبين في هذه الحالة تكون قد وردت على غير محل صالح للتصويت والاقتراع عليه، ولا يكون إعلان نتيجة الانتخابات بفوزه فيها متضمنا إعلانا عن إرادة الناخبين، ولا وجه للقول - والحال كذلك- بتحصن قرار إدراج اسم المرشح في كشوف المرشحين".خامساً: موقف محكمة الطعون الانتخابية من إمكانية الرجعية بتطبيق القانون رقم 27/ 2016
أسست المحكمة قضاءها على أن تعديل قانون انتخابات أعضاء مجلس الأمة "بإضافة فقرة ثانية إلى المادة (2) بموجب القانون رقم (27) لسنة 2016 بحرمان كل من أدين بحكم نهائي في إحدى الجرائم المنصوص عليها من حق الانتخاب، إنما يخاطب – بموجب قوة نفاذه الفوري وفق أثره المباشر- كل من تمت إدانته بحكم نهائي في إحدى الجرائم المنصوص عليها فيه، وأدركه هذا التعديل قبل انقضاء الآثار الجنائية لذلك الحكم". ولا شك في أن ما انتهت إليه محكمة الطعون الانتخابية، وبتشكيلها بذات الهيئة المكونة للمحكمة الدستورية، قد تنكبت صحيح حكم القانون وحادت عن جادة الصواب، وأعملت قانونا جزائيا بأثر رجعي، خلافا للمادتين 32 و17٩ من الدستور الكويتي، ومن ثم فإنّ حكمها قد أهدر مسلّمات قانونية وتنكّر لقواعد دستورية راسخة، فضلا عن إقحام نفسها على ميدان محكمة موضوع عليا (محكمة التمييز الإدارية)، مفرطة بمبدأ حجية الأمر المقضي لمحكمة الموضوع ذي الطبيعة العينية التي تجعله حجة في مواجهة الكافة، بل ومستعصيا على مخالفته من أيّ محكمة كانت، الأمر الذي يغدو معه حكم محكمة الطعون الانتخابية (المحكمة الدستورية) بلا قيمة ولا حجيّة.سادساً: الحلول المقترحة
وبناء على ذلك، فإن الحل الممكن للخروج من حالة التناقض بين الحكمين هو:1- قضائياً: اللجوء إلى محكمة التمييز لتقديم طلب يتعلّق بإجراءات تنفيذ الحكم الصادر منها، يطلب فيه من المحكمة الحكم بالاستمرار في تنفيذ حكمها القاضي بحق د. الداهوم في الترشح بانتخابات أعضاء مجلس الأمة، تأسيسا على عدم انطباق القانون رقم 27 لسنة 2016 على الوقائع المنسوبة إليه في الحكم الصادر بتاريخ 8 يونيو 2014، وهذا أيضا هو الإجراء المتاح والمعمول به في القانون المقارن. 2- برلمانياً: أن يتولى مجلس الأمة إجراءات الترجيح بين مصير ما انتهى إليه كلا الحكمين، خروجا من التناقض، فيرجح الرأي الذي يراه أسلم قانونًا، وفقًا لما له من اختصاص في بتّ صحة انتخاب أعضائه، عودا للأصل الدستوري، المقرر بالمادة ٩5 من الدستور، وتطبيقًا له ولأحكام قانون الانتخابات بشأن لزوم إصداره قرارا بإسقاط عضوية أحد أعضائه، عملا بما هو منصوص عليه في المادة 50 من قانون الانتخاب، واعتمادا على استقلاله بشؤون أعماله وإجراءاته، وفقا لما هو مقرر بالمادة 117 من الدستور، في نطاق مبدأ أن مجلس الأمة سيد قراراته.تعارض الحكمين وإمكان الحسم بينهما
بافتراض أن حكم محكمة الطعون الانتخابية قائم ومنتج لآثاره، فإننا نكون أمام حالة تعارض بين حكم محكمة الطعون الانتخابية (المحكمة الدستورية) وحكم محكمة التمييز الإدارية، وليس من الممكن تنفيذ الحكمين في وقت واحد.وقد صدر حكم المحكمة الدستورية، بصفتها محكمة موضوع في منازعة انتخابية، وصدر حكم محكمة التمييز بصفتها المحكمة صاحبة الولاية النهائية في قضاء إلغاء القرارات الإدارية، وكذلك في تطبيق العقوبات الأصلية والتبعية، وقد قضت «التمييز» بعدم جواز تطبيق القانون رقم 27 لسنة 2016 على حالة د. بدر الداهوم، لأن الوقائع المنسوبة إليه حدثت قبل صدور هذا القانون، وبذلك فإن حكم محكمة التمييز هو الأولى بالتطبيق.وهذا الحكم له حجية مطلقة تسري في مواجهة الكافة، عملا بنص المادة الخامسة عشرة من قانون الدائرة الإدارية التي تقرر أن الأحكام الصادرة بالإلغاء تكون لها حجية عينية في مواجهة الكافة، بل وأحكام المحكمة الدستورية ذاتها، والتي سبقت الإشارة اليها في هذه الدراسة.