كلهم لها وكلهم عليها! *
كلهم يتحدثون بها وعنها... كلهم ينادون ويصرخون: نريدها أو هي حقوقنا... بعضهم قدم حياته ثمناً لها، تصور أنها الديمقراطية التي لا يخلو أي خطاب منها، ومن كل الأطراف تلك التي تطالب بها من شعوب أو فئات مجتمعية وتلك التي تنتهكها أيضا، فهي "تزين" خطاباتها اليومية بها، ولمَ لا؟ الواقفون على طرفي المعادلة السياسية وعلى النقيض من بعضهم يقولون إنهم يعملون بها أو يطالبون بها أو يسعون إليها، وآخرون يرددون: لماذا لا نكون مثل تلك الدول؟ ويعطون أمثلة بعضها محق بعض الشيء، وأخرى لا علاقة لأنظمتها السياسية بالديمقراطية سوى أن كنا نعتقد أن أي برلمان منتخب يعني أن هناك سلطة حقيقية وصوتاً للشعب بأطيافه المختلفة، يعبر عنها من هؤلاء المنتخبين عبر دوائر وصناديق اقتراع هي الأخرى يتوهم بعضنا أنها شديدة الحياد. في اجتماع منذ أكثر من عقدين في مدينة أكسفورد البريطانية وفي جامعتها العريقة، جلست مجموعة من المثقفين والعاملين في الحقل السياسي من منطقتنا العربية، جمعتهم حينها الديمقراطية أيضا أو البحث عنها، وكيفية تحقيقها في دولنا التي تأخرت عن ذاك الركب الطويل من الدول المتحولة. معظمهم رحل عنا ولم يرَ حلمه بالديمقراطية، ولا حتى أول لبنة في طريقها الطويل، وآخرون كبروا أو "هرموا"، كما قال ذاك الواقف في ليل تونس، في تلك السنة التاريخية، بالنسبة إلى هذه المنطقة ككل، فمن بعدها لم يبقَ أي حجر ولا بشر إلا تغيرت حاله أو انتقل إلى مكان آخر أو حتى عالم بعيد!
هناك ردد الباقي رغم رحيله، أستاذنا رياض الريس وهو يختم ذاك الاجتماع في يومه الأخير وبعد مداولات طويلة: لا يوجد بيننا من هو ديمقراطي حقا، ثم أضاف ربما فقط تلك الصبية التي تشاركنا نحن "الشيوخ" هذا الجدل، ولكنها قد آمنت به وربما ببعض مما كتبناه نحن، وبدأت رحلة بحثها عنه مرات بالكتابة ومرة بالأحاديث والندوات. مع السنين زادت حدة المتحدثين والمطالبين بالديقمراطية، وكثرت المقالات والدراسات والكتب، في حين بقي المواطن البسيط في أوطاننا ينكش صفائح القمامة بحثا عن رغيف أو بقايا طعام ليعود به لعائلته. بعضهم قال بعدها "الديمقراطية ما تطعمش عيش" وكأنها قد تحققت فعلاً وفشلت، مشيرين إلى الحملات الانتخابية لتلك البرلمانات وللصور والشعارات التي تملأ الدنيا من شوارع ومدن وفضائيات ووسائل تواصل. في ليلة صعبة بتلك البلدة المحاصرة تحلقت مجموعة من الشباب حول القادمين لهم لإطعامهم وإنقاذهم، وسألوا زوارهم "ألا يحق لنا نحن أن نعيش الديمقراطية كما تلك الشعوب العربية أيضا المتنعمة بكل ما لذّ وطاب؟"، في تلك اللحظة وبعد يوم طويل وشاق جسديا ونفسيا، نظر الزوار إلى بعضهم مترددين في الإجابة، فهل يقولون لهم بأن "ليس كل ما يلمع ذهبا" أو يرددون عليهم أن الديمقراطية التي يقرأون عنها في الكتب هي مجرد يوتوبيا أو مثالية لم تتحقق بعد، وهل يشرحون لهم أن صناديق الانتخابات لا تعني أن هناك ديمقراطية، وأن الأصوات "الرادحة" في البرلمانات لا تعني أن صوت الناس أو بعضهم قد وصل وأصبح له قيمة ما. كان الشباب شديدي الحماس، فراحوا يسألون زوارهم فرداً فرداً بعد أن يتعرفوا على بلده أو بلدها، ثم يتابعون بالسؤال الدائم: "كيف حال الديمقراطية عندكم؟"، أكثرهم صراحة كان ذاك الأيرلندي الذي قال لهم لا تكثروا من المثاليات حتى لا تصابوا بخيبة الأمل بعد كل تضحياتكم الكبيرة، فلا توجد ديمقراطية حقيقية في أي مكان. هو وآخرون لم يعرفوا كيف يقولون لهؤلاء الشباب وغيرهم من الحالمين في أوطاننا بأن نخبتكم الجالسة خلف يافطات الأحزاب والمعارضات والثوريات وتلك الحاملة لقب مثقف أو خبير، حتى كل هذه الشخصيات كثيراً من الأحيان لا تؤمن بالديمقراطية، بل ترددها كشعار، وعند أول منعطف يخرج ذاك المختبئ داخلها، ذاك الدكتاتور الصغير الباقي فينا جميعا الذي يذكر صاحبه "أنت أو لا أحد"، أو على أقل تقدير "أنت الأكثر فهماً ومعرفة وخبرة والأجدر بالمنصب القادم". هم أيضاً يطالبون بسقوط الأصنام ليجلسوا هم مكانها ولتكريس الأصنام وعبادة الفرد وطريق الرأي الواحد وأن تكون معي أو ضدي فلا ثالث لهم، هم أيضا مصابون بالداء نفسه، وفي كثير من الأحيان دون أن يدركوا، وأحيانا مع سبق الإصرار والترصد، فالحديث عن الديمقراطية ليس كممارستها أو أنها أصبحت أيضا جزءاً من "الكلمات الموضة" والشعارات الرنانة للوصول إلى الكرسي الوثير ثم تنتهي تلك المسرحية! لا ديمقراطية إلا بديمقراطيين حقيقيين فارحمونا.* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية