عادت المقترحات الشعبوية ذات الكلفة المالية على ميزانية الدولة، إلى الواجهة، من بوابة مقترحات تأجيل استقطاع القروض الاستهلاكية والشخصية، إلى جانب مختلف الاستقطاعات الحكومية مثل بنك الائتمان والتأمينات الاجتماعية وصندوق الأسرة على المواطنين لـ 6 أشهر.

واللافت هذه المرة أن المقترح لم يحظَ فقط بتأييد نواب مجلس الأمة، الذين طالما تبنّى أغلبيتهم المقترحات الشعبوية الانتخابية دون تقدير لآثارها المالية والاقتصادية، إنما أيضا بموافقة حكومية "مبدئية"، رغم أن الخطاب الاقتصادي الرسمي ما انفكّ خلال السنوات الماضية يحذّر من "خطورة تبنّي مقترحات ذات أكلاف مالية على الخزينة العامة للدولة، خصوصا مع استمرار انخفاض أسعار النفط العالمية وما يترتب عليها من عجز في الميزانية، بالتوازي مع نفاد السيولة في صندوق الاحتياطي العام"، مما يثير أكثر من تساؤل عن سبب التحول -العلني على الأقل- في موقف الحكومة تجاه مقترح له أضرار اقتصادية-مالية، إن كان مساومة لتخفيف الضغط النيابي عنها؛ المتمثل في أكثر من استجواب لرئيسها وأعضاء حكومته، أو مناورة للمقايضة على تمرير مشاريع قوانين ذات مخاطر عالية مستقبلا، وإن خففت من آثار العجز المالي حاليا كقانون الدّين العام أو السحب من احتياطي الأجيال القادمة.

Ad

وفي كل الأحوال، فإن السلوك الحكومي ينمّ عن عجز في إدارة الملفات الاقتصادية، سواء كان الأمر تراجعا عن خطابها أو مساومة أو مقايضة.

ارتفاع الأسعار

وكعادة المقترحات الشعبوية، فإن عناوينها برّاقة، لكن الشيطان يكمن في تفاصيلها، خصوصاً من جهة الضرر الذي سيقع على المواطن جراء تأجيل الاستقطاع، فتأجيل استقطاع القروض لا يعفي فقط المقترض من مديونيته، إنّما يرفع النزعة الاستهلاكية في السوق تبعا لارتفاع مستوى السيولة المتوافرة لدى المستهلكين، وبالتالي ترتفع الأسعار وفقا لمؤشرات التضخم.

ومن المفيد هنا التذكير بأن تأجيل سداد القروض لـ 6 أشهر العام الماضي، ساهم بشكل أساسي في ارتفاع مستوى التضخم بواقع 2.95 في المئة، خلال عام 2020، مقابل 1.5 في المئة لعام 2019، و1.2 في المئة لعام 2018، و1.7 في المئة بـ 2017، وبالتالي فإن نسبة التضخم في عام 2020 ارتبطت بشكل وثيق -وإن لم تبين الإدارة العامة للإحصاء درجة ارتباطه- بوقف استقطاع أقساط القروض.

الطبقة المتوسطة

لكن أضرار وقف الاستقطاع لا تنحصر فقط في غلاء الأسعار ونسبة التضخم، إنما في الضرر إمّا على شريحة كبرى من المواطنين من مساهمي البنوك الكويتية، يتجاوز عددهم 120 ألف مواطن جلّهم من الطبقة المتوسطة والمتقاعدين وأصحاب المدخرات الذين يرغبون في تحقيق الأمان المالي لأسرهم، عبر الاستثمار في أسهم ذات عوائد، وإما على الدولة بأن تتحمّل كلفة التأجيل المرتبطة بخسائر إيرادات المصارف التجارية، فضلاً عن التأمينات الاجتماعية، لكونها جهة حكومية تتولى إدارة أموال الغير (المتقاعدين والمشتركين)، وهو ما يبلغ -بالقياس على ما أعلنته المصارف العام الماضي عن تأثّرها بخسائر نتيجة لوقف الاستقطاع- حدود 370 مليون دينار، الأمر الذي يبيّن أن تحقيق المنفعة بمقترحات شعبوية سيفضي الى ضرر إمّا على المواطن أو على خزينة الدولة أو كليهما.

من سيتحمل الكلفة؟

اللافت هنا ما ورد في تقرير المكتب الفني للجنة المالية البرلمانية، التي أقرت 7 مقترحات لتأجيل سداد أقساط القروض، إذ قالت "يتعين معرفة الكلفة المالية المترتبة على الاقتراحات بقوانين المقدمة، ومَن سيتحمل تلك الكلفة، الخزانة العامة أم البنوك وشركات التمويل"؟ وهذا توجّه خطير في إقرار موضوعات ذات كلفة مالية لا تعرف الجهة الفنية المختصة مَن سيتحمل تكلفتها!

فهم الرفاهية والريعية

المؤسف حقاً ليس مسألة الأكلاف المالية، ولا حتى نكوص الحكومة عن تعهّداتها السابقة بضبط الإنفاق، أو حتى تنامي الشعبوية على أعمال نواب مجلس الأمة، إنما المؤسف هو انحراف جهد تقديم المنفعة الحقيقية للمواطن بمقترحات، في حقيقتها، مضرّة للدولة والمواطن على حد سواء، في خلط رهيب بين مفهومي الرفاهية والريعية، فالأولى تُعنى بحياة الإنسان وتوفير خدماته الضرورية في السكن والتعليم والعلاج وجودة الخدمات وضبط مستويات التضخم، وإتاحة فرص رفع مستوى الدخل ومتانة أنظمة الضمان الاجتماعي، وتصل حتى الى ارتفاع معدلات الأعمار في المجتمع ومدى الاهتمام بمعايير البيئة، وحتى الحكم الرشيد والحريات العامة والشخصية، ولهذا حازت فلندا، مثلاً، الترتيب الأول عالميا في مؤشر أكثر دولة لجهة سعادة مواطنيها، أما الثانية -أي الريعية- فهي استهلاكية محضة تنفق مليارات الدنانير دون عوائد ملموسة على الاقتصاد، كمقترحات إسقاط القروض أو تأجيل سدادها.

والأسوأ من ذلك كله أن تتواطأ الحكومة مع مجلس الأمة في ترسيخ القيم الريعية على حساب مفاهيم الرفاهية، وأن تتراجع عن خطابها ذي الشكل الإصلاحي، بمجرد ارتفاع أسعار النفط، وهي بذلك تعيد الخطأ المتكرر نفسه في كل مرة، لكن مع ارتفاع نسبة المخاطر في كل خطأ.

محمد البغلي