تطبّق سريلانكا مبدأ عدم الانحياز في مقاربتها الدبلوماسية منذ فترة، لكن في ظل تصاعد الضغوط من الصين والهند والولايات المتحدة في مجال الاستثمارات الخارجية والتعاون الأمني، يظن بعض المحللين أن هذه الجزيرة الصغيرة التي تشمل 22 مليون نسمة ستضطر للانحياز إلى طرف معيّن قريباً. في غضون ذلك، صعّد الرئيس غوتابايا راجاباكسا خطابه حول «حياد سريلانكا» الذي يختلف عن سياسة عدم الانحياز ويُعتبر مفهوماً جديداً في السياسة الخارجية السريلانكية، ففي سبتمبر 2020، شدّد راجاباكسا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة على «التزام سريلانكا بتطبيق سياسة خارجية مبنية على الحياد من دون الانتماء إلى بلد آخر أو كتلة نافذة من القوى».
استبدال سياسة عدم الانحياز
تحمل سريلانكا تاريخاً طويلاً من الحياد الذي كان يشكّل محور سياستها الخارجية الأساسية، حيث ساعدت هذه المقاربة البلد لاسترجاع سيطرته على قاعدتَين عسكريتَين في عام 1957 وإبطال اتفاق أمني مع بريطانيا العظمى التي كانت تربط مصير الجزيرة العسكري بالقوة الاستعمارية السابقة، وسمح فك الارتباط لسريلانكا بإضعاف النزعة إلى الاتكال على الغرب ثم أصبح البلد عضواً مؤسساً لـ«حركة عدم الانحياز» في عام 1961.شكّلت هذه الحركة منصة لتسهيل مشاركة سريلانكا في الجهود الدبلوماسية المتعددة الأطراف وسط العالم الجديد بعد حقبة الاستعمار وداخل الأمم المتحدة أيضاً، وخلال الستينيات والسبعينيات، انشغلت سريلانكا بترسيخ سيادتها واستقلالها وتطوير اقتصادها تزامناً مع الابتعاد عن خلافات القوى العظمى.اليوم، يتابع المسؤولون في سريلانكا التكلم عن عدم الانحياز، فتكلم الصحافي راثيندرا كورويتا حديثاً عن انتشار قناعة شائعة بين خبراء السياسة في سريلانكا مفادها أن سياسة عدم الانحياز في الشؤون الخارجية سمحت للبلد بتجاوز حقبة الحرب الباردة من دون التعرّض لأضرار كبرى، ويمكن تكرار النهج نفسه مجدداً عبر إطلاق المبادرات السياسية المناسبة، ولهذا السبب، قد يكون التعديل المستجد باتجاه الحياد خطوة طبيعية في هذا المسار التاريخي وأداة فاعلة للتصدي للمطالب الأميركية والصينية والهندية والتركيز على شؤون سريلانكا الداخلية.لكنّ الانتقال من عدم الانحياز إلى الحياد ليس مجرّد تغيير في المصطلحات المستعملة، ولا يُكمّل مفهوم الحياد الذي يطرحه راجاباكسا معنى عدم الانحياز بل إنه يستبدل مختلف المراجع المرتبطة به، حيث يترافق هذان المفهومان، رغم تشابههما، مع تداعيات مختلفة جداً، فغالباً ما ينذر اللعب على الكلام عند التطرق إليهما بحصول تحولات كامنة في السياسة الخارجية، وهذا ما أثبتته السويد وفنلندا مثلاً حين طرحتا مبدأ الحياد للإشارة إلى جهوزيتهما لتوثيق التعاون مع حلف الناتو.يتعلق أبرز اختلاف بين المفهومَين بمكانة الحياد الواضحة في القانون الدولي، إذ تكثر هذه الحالات على مر مئات السنوات السابقة في المجالات التجارية والإنسانية والشؤون العسكرية، أما عدم الانحياز، فهو مفهوم سياسي محض وقد خسر جزءاً من أهميته عند انتهاء الحرب الباردة وغداة انحسار مفهوم التحرر من الاستعمار بعد 70 سنة من اكتساب معظم المستعمرات السابقة استقلالها، ولهذا السبب أيضاً، لا يشعر راجاباكسا بالقلق من التطورات الداخلية حين يتكلم عن الحياد، فهو مفهوم أوروبي نموذجي ومرتبط بالتوازن بين القوى العظمى.تجدر الإشارة إلى أن الحياد يحمل دلالات عسكرية قوية، إذ يمنع القانون الدولي بموجب اتفاقيات لاهاي (في العامَين 1899 و1907) الدول الحيادية من مساعدة أي طرف خلال الحروب، حتى أنه يمنع تلك الدول من تقديم الأراضي المحايدة إلى الجهات المتناحرة، وقد يبدو هذا المبدأ معادياً للمصالح الصينية في موانئ سريلانكا، لكن لا شيء في وسائل الإعلام أو المنشورات الحكومية الصينية يثبت أن الحزب الشيوعي الصيني يعتبر هذا الوضع مثيراً للمشاكل.عوامل داخلية مؤثرة
يتأثر قرار سريلانكا بالانتقال إلى مبدأ الحياد الكامل بعناصر داخلية، مع أن هذا العامل يرتبط أيضاً بتأثير الجهات الخارجية. وصل راجاباكسا إلى السلطة عام 2019، وهو شقيق رئيس البلاد السابق ورئيس الوزراء الحالي ماهيندا راجاباكسا وقد شهد عهده خروج ديون سريلانكا عن السيطرة، حيث شملت عقود الإيجار اللاحقة اتفاقاً سيئ السمعة يرتبط بإحدى المحطات في ميناء سريلانكا الأساسي في كولومبو، فقد منحت تلك الصفقة الصين سيادة كاملة في المنشآة، وفي عام 2014، تفوقت بكين استراتيجياً في تلك المحطة عبر إنشاء رصيف للغواصات في يوم زيارة رئيس الوزراء الياباني السابق آبي شينزو إلى سريلانكا.شكّلت هذه المسألة إحراجاً كبيراً لسلطات المرفأ وترافقت مع تداعيات سياسية واضحة على ماهيندا راجاباكسا، وفي عام 2015 تخلى الناخبون عن دعمه، فخسر الرئاسة وحقق حزبه «سريلانكا بودوجانا بيرامونا» نتائج مريعة في الانتخابات، وحتى القادة بعده عجزوا عن إصلاح الضرر في المرحلة اللاحقة، فاضطرت سريلانكا لتسليم ميناء آخر يشمل 6 آلاف هكتار في «هامبانتوتا»، لكن ترافقت الصفقة هذه المرة مع ضمانات واضحة لمنع استعمال هذه المساحة لأغراض عسكرية.في الفترة الأخيرة، حملت مواقف راجاباكسا مؤشرات تنذر بعدم استعداده لتكرار أخطاء الماضي ورغبته في التصدي للبرامج الصينية أحادية الجانب من خلال تنويع الاستثمارات في سريلانكا، وتحديداً عبر إشراك الهند في مشاريع البنى التحتية، فلطالما اعتُبر قرار الحكومة في 2019 بإنشاء محطة تديرها الهند واليابان في عمق البحار في ميناء كولومبو (في جوار المحطة التي تملكها الصين مباشرةً) جزءاً من استراتيجية تجديد التوازن، لكن هذه المشاريع تأثرت أيضاً بالتداعيات السياسية والتقلبات المستمرة. بعد اندلاع احتجاجات محلية محتدمة، قررت الحكومة التخلي عن المشروع لصالح محطة تملكها الدولة بالكامل، فأثار هذا القرار استياء الشريكَين المحتملَين معاً، ولكن في 2 مارس غيّرت حكومة راجاباكسا مسارها مجدداً، فأعلنت أن «محطة الحاويات الغربية» ستُخصَّص في نهاية المطاف للاستثمارات الهندية واليابانية، مما يسمح للبلدَين بامتلاك 85% من الحصص، وهي النسبة التي تملكها الصين في محطتها المجاورة.تثبت هذه الأحداث وجود رابط دقيق بين العوامل الداخلية والعلاقات الخارجية، إذ كانت المحاولات الهندية المزعومة للتدخل في سياسات سريلانكا الداخلية والخارجية مصدراً دائماً للقلق والتوتر وسط الرأي العام، وفي الوقت نفسه، لن تكون الصين آمنة من الاضطرابات المحلية. لقد أثبت الرأي العام أنه ما عاد يثق بالصين بل يشعر بالقلق من طبيعة «أموالها السهلة» التي تحمل طابعاً غامضاً وغير قابل للمحاسبة، كذلك، أدت المخاوف من فشل المشاريع الضخمة وزيادة اليد العاملة الصينية في سريلانكا وتنامي مستوى الديون إلى اندلاع احتجاجات مفتوحة ضد الحكومة الموالية للصين.أمام هذه التجارب، ليس مفاجئاً أن يزيد الأخوان راجاباكسا حذرهما، فخلال الحملة الانتخابية في 2019، أثبت غوتابايا راجاباكسا دعمه القوي للحياد الكامل الذي أصبح جزءاً من خطاب تنصيبه، فتعهد أمام جمهوره المحلي بأن تبقى سريلانكا محايدة على الساحة العالمية وألا تتدخل في أي صراعات.على صعيد آخر، أدت تجارب الماضي إلى نشوء نوع من الإجماع الوطني، فلم يعبّر خصوم راجاباكسا المحليون في حزب «سريلانكا بودوجانا بيرامونا» أو في حزب «سماجي جانا بالاوجايا» المعارِض (كان يُعرَف سابقاً باسم «الحزب الوطني المتحد») عن رفضهم لمسار الحياد، مع أن رئيس وزراء سريلانكا، رانيل ويكرمسينغ، لم يستعمل المصطلحات نفسها، كذلك، بدأ كبار الدبلوماسيين في مكتب وزارة الخارجية يعتبرون سياسة بلدهم على مسافة متساوية من جميع القوى العظمى، وفي فبراير 2021، صرّح وزير الخارجية السريلانكي، جاياناث كولومباج، لصحيفة «ذا هندو» الهندية المرموقة والناطقة باللغة الإنكليزية بأن سريلانكا ستحافظ على مبدأ الحياد في لعبة القوى العظمى وأن العلاقات الودية الرامية إلى تحقيق الأهداف الاقتصادية مع جميع الدول ستُحدد مسار السياسة الخارجية.مبررات «الحياد الكامل»
بشكل عام، يُعتبر الحياد الكامل مفهوماً جديداً نسبياً في خطاب السياسة الخارجية داخل سريلانكا، وهو يرتبط بالتطورات السياسية التي واجهتها عائلة راجاباكسا، لكن رغم الأسباب الوجيهة التي تبرر التشكيك بمصداقية هذه المقاربة، لا يمكن اعتبار المواقف الداعمة للحياد اليوم مسألة أحادية الجانب، فهي تمنح الحكومة فرصة الاحتماء من اعتداءات جميع الأطراف الأخرى، بما في ذلك الصين. ويبدو أن المخاوف المرتبطة بفرض سيادة إقليمية في الموانئ هي التي تجعل سياسة الحياد خياراً منطقياً وقابلاً للتنفيذ.لطالما كان الحياد أداة سياسية قادرة على توسيع هامش المناورات الدبلوماسية للدول التي لا تريد أن تربط مستقبلها بقوة إقليمية أو عالمية محددة، ولأسباب داخلية ودولية إذاً، تبدو سياسة الحياد منطقية بالنسبة إلى كولومبو وستبقى كذلك على الأرجح بنظر الحكومات المستقبلية، فكلما زادت القوى الخارجية ضغوطها على سريلانكا، زادت القناعة بأهمية تطبيق سياسة حيادية حقيقية داخلياً، لكن لم تتضح بعد طبيعة تلك السياسة: هل ستتخذ مثلاً شكل حياد مسلّح ودائم وقانوني، بما يشبه المبدأ المعتمد في سويسرا أو النمسا، أم أن الحياد سيكون التزاماً سياسياً كما في منغوليا أو صربيا؟ أخيراً، ستكون ركائز الحياد ودعمه أو رفضه لتوثيق الروابط مع «حركة عدم الانحياز» محط جدل حتمي في المراحل المقبلة.