نقطة: بين نارين
الاستقطاب الحاد يكرر نفسه اليوم بين اتجاهين، والباقي تفاصيل وشعارات وكومبارسات لملء المشهد، يقوده إسلامويون متحزبون وقبليون مع مندفعين أغلبهم من الشباب الصادقين في نواياهم ممن يريدون حماية الكويت، كما يرددون دائماً، مقابل سكان الفقاعات البعيدين عن الواقع ومطالب الناس، ومعهم بعض دعاة الاستقرار والمنتفعين والملتصقين بالكراسي والمناصب ممن يورثونها أو يسرقونها، ظانين أنهم هم الكويت فقط، وبعض الانتهازيين والمندسين والطامحين بينهما، يشعلون من هنا ويحرضون من هناك في سبيل تحصيل غنائم رخيصة من تلك المعارك المحدودة، ونحن تائهون بينهما. العنوان الرسمي صراع بين الحكومة والمعارضة، رغم أن كلا الطرفين لا يختلفان عن بعض كثيراً، ويتنافسان على تقديم الأسوأ لنا، فالمعارضة عصرية الشكل واللسان لكن بمضمون وممارسات رجعية ومتخلفة، والسلطة رجعية المنشأ والتكوين بأداء وشكل أكثر حداثة نسبياً من معارضتها المعاد تدويرها، وإن لم يكن الوقت قد فات على ضبط المصطلحات لكنت أفضل تسميتها "معاكسة" وليست معارضة، فأي شيء تفعله السلطة أو أي أحد ليس من فريقهم يطالبون بعكسه، بلا معايير ثابتة أو بدائل أو أسباب، "لاء وخلاص"، وخصومنا خونة وقبيضة واللي مش "عاجبو" يشرب من البحر، وهذا لا ينفي أن كثيراً من خصومهم قد يكونون فعلاً كذلك، لكنهم ليسوا بأفضل من كثير ممن يصطفون معهم أيضاً، لكن الكلام ضايع في مثل هذه الحوارات.لا أظن أن هناك عاقلاً في الكويت ينكر وجود سوء إدارة أدى إلى تراكم فساد تُساءل عنه الحكومات المتعاقبة أو السلطة، أو سمِّهم ما شئت، لكن لا يصح أيضاً أن تكون مسطرتنا وبوصلتنا الأخلاقية والسياسية هي السلطة فقط، بحيث إن كل من يقف ضدها، وإن كان أسوأ منها بمراحل أو منتفعاً من فسادها أصلاً، اصطففنا معه ورفعناه للسماء، فصلب أزمتنا اليوم باعتقادي يكمن في أن مدعي الإصلاح لا يقلون سوءاً ورداءة عن المراد إصلاحه، ولا يعوَّل عليهم لا في إيجاد حلول لأزمة مالية ولا محاربة فساد ولا حتى مواقف مبدئية ولا أي شيء آخر، وما تكرار المزايدات في العديد من القضايا والحقوق الدستورية سوى مناكفات غير نابعة من إيمان حقيقي، ولا تعبر إلا عن رغبة في الهروب إلى الأمام بسبب العجز الفكري عن مواجهة القضايا المستحقة والملحة، لذا تراهم هم ذاتهم من يعارضون الشيء ويمارسونه عند الحاجة، والأدهى أنهم لا يريدون تغييره ويفضلون بقاءه للاستفادة منه حيناً، والمتاجرة به أحياناً أخرى، مع تحميل الآخرين مسؤولية ذلك في كل الأحوال. وعلى هذا المنوال من ازدواجية المعايير والتناقضات عد وخربط.من الآخر، السلطة و"المعاكسة" بشكلها الحالي كلاهما أسوأ من بعض، ويتنافسان على إبهارنا كلٌّ في مجال اختصاصه، فلا الحكومة تستحق الدفاع عنها ولا المعارضة تستاهل الوقوف معها، والوضع لا يخرج عن تنافس بين فساد نعرفه واعتدناه ولا يزايد علينا، وفساد آخر متنكر بالشعارات الجميلة والصوت العالي مع كثير من العنف اللفظي والإرهاب الفكري، نراوح بين دكتاتورية السلطة والأشخاص المعروفين إلى دكتاتورية الجماهير والغوغاء وضياع القرار والمسؤوليات. ومادامت "المعاكسة" تحمل ذات أمراض السلطة التي تريد إصلاحها فهي جزء من المشكلة وليس الحل، وبعبارة أخرى وبما أن الغريق لا يمكنه إنقاذ غريق آخر فلا يمكننا أن نتوقع من الفاسد إصلاح وضع فاسد، وإن علا صوته وكثرت حركاته وزادت انفعالاته، بعد كل هذا إذا كنت تحسب نفسك ثورياً ومناضلاً، وتستحق هذه الأوصاف التي تعطيك الشعور بالتفوق لمجرد وقوفك مع "المعاكسة" ضد السلطة، فاعلم أن هناك فريقاً ثالثاً أكثر تطرفاً منك و"لايعه چبده" من الاثنين معاً، وأحسبهم كثراً، فما أردى من الحكومة إلا المفتلت.