شكّلت قصته مصدر إلهاء لفيلم Hotel Rwanda (فندق رواندا) الذي أنتجته "هوليوود". وفي عام 2005، منحه الرئيس جورج بوش الابن وسام الحرية الرئاسي، وهو واحد من أهم الأوسمة التي يحصل عليها المدنيون في الولايات المتحدة.كتب روسيساباجينا رسالة نصية إلى زوجته تاسيانا جاء فيها: "أنا هنا، نحن نقف على أمن الحدود الآن". ثم دخل إلى فندق "إيبيس ستايلز" في دبي، وفق وثيقة صادرة عن الإمارات العربية المتحدة. كان أحد معارفه ينتظره هناك؛ إنه القس قسطنطين نيومونجير الذي دعاه إلى بوروندي. استحمّ روسيساباجينا قبل التوجه إلى مطار آل مكتوم مع القس، واستقل الصديقان هناك طائرة خاصة تديرها شركة الخطوط الجوية "غين جيت" التي تستعملها حكومة رواندا في مناسبات متكررة. حين هبطت الطائرة بعد وقتٍ قصير، ظن روسيساباجينا أنه وصل إلى بوروندي.
لكن واجهته قوات الأمن المسلحة على مدرج المطار واعتقلته وساقته إلى سيارة. أدرك روسيساباجينا في تلك اللحظة أنه لم يهبط في بوروندي، بل في كيغالي، عاصمة رواندا. لقد وقع في الفخ: تبيّن أن صديقه القس كان يتعاون مع نظام رئيس رواندا، بول كاغامي. اليوم، يُعتبر روسيساباجينا إرهابياً، وسيُحاكم في كيغالي.إنها ضربة موجعة لرجلٍ معروف بأعماله الإنسانية، لكنه يقبع اليوم في قفص الاتهام. تبدو حكاية بول روسيساباجينا متشابكة وأسطورية بقدر تاريخ البلد كله. لكن قصته تتمحور في المقام الأول حول حليفَين في الحرب تحوّلا إلى ألد الأعداء اليوم.كان كاغامي وروسيساباجينا مقربَين في الماضي. لكن روسيساباجينا يعتبر رئيس رواندا اليوم دكتاتوراً ويطالب بإسقاطه. في المقابل، يظن كاغامي أن حليفه السابق إرهابي ومثير للمشاكل. في السنوات الأخيرة، كان كاغامي مسؤولاً عن اعتقال أو قتل عدد من شخصيات المعارضة، لكن روسيساباجينا يحمل الجنسية البلجيكية، ولديه إقامة دائمة في الولايات المتحدة. كان يعيش في المنفى الأميركي، لذا ظن أن كاغامي لا يستطيع الوصول إليه.لهذا السبب زادت الضجة التي أحدثها اعتقاله على يد حكومة رواندا في الصيف الماضي. وضعت منظمة هيومن رايتس ووتش ما حصل في خانة "الاختفاء القسري"، واستنكر البرلمان الأوروبي خرق القانون بهذا الشكل. في المقابل، أشاد كاغامي بهذه العملية الاستخبارية "المثالية".للوهلة الأولى، قد تبدو الأدوار التي يؤديها كاغامي وروسيساباجينا واضحة: إنها مواجهة بين دكتاتور لا يتردد في انتهاك القانون لملاحقة منتقديه، وبطل ينادي بالديمقراطية وحقوق الإنسان. لكنّ الوضع ليس بهذه البساطة.في الأسابيع الأخيرة، قيّمت صحيفة "شبيغل" سجلات المحكمة ووثائق داخلية أخرى، وتكلمت مع مسؤولين في رواندا والولايات المتحدة وأوروبا ومع أقارب روسيساباجينا ورفاقه ومصادر على صلة بالمحاكمة في "كيغالي". لكنها عجزت عن إجراء مقابلة مع كاغامي شخصياً، ولم تسمح لها السلطات بمقابلة روسيساباجينا في السجن الذي يقبع فيه في كيغالي.
صراع على السلطة
تنتشر مباني السفارات في شوارع شمال غرب العاصمة واشنطن، وتشمل هذه المنطقة عدداً كبيراً من القصور والمدارس الخاصة. إنه جزء هادئ وآمن من العاصمة الأميركية.تُرحّب أناييس كانيمبا بالزوار في منزلٍ يغمره الضوء وذي واجهة بيضاء. يعود هذا المنزل إلى صديق والدَيها. في هذا الجزء الشمالي الغربي من المدينة، يُفترض أن تكون بأمان، وفق رأي ذلك الصديق. تبلغ كانيمبا 29 عاماً، وقد درست علم الأحياء في الجامعة، وتعمل مساعِدة في المجال التنموي في إفريقيا. لكن يتمحور كل شيء في حياتها اليوم حول والدها بول روسيساباجينا، وقد كان الوضع كذلك في معظم مراحل حياتها. كانيمبا ليست ابنته البيولوجية، فهي وأختها كارين ابنتا شقيق تاسيانا الذي توفي مع زوجته خلال الإبادة الجماعية. لذا تبنى الزوجان روسيساباجينا الفتاتَين.نجح روسيساباجينا في إنقاذ حياة جميع اللاجئين في فندق "دي ميل كولين" بطريقة عجائبية. لكنه لم يشعر بالأمان في رواندا، رغم سقوط نظام الهوتو. فقرر الهرب إلى بلجيكا عن طريق أوغندا مع زوجته تاسيانا وأولاده الستة.في المرحلة اللاحقة، قدّم روسيساباجينا طلب لجوء وقاد سيارة أجرة، واشترى منزلاً في ضواحي بروكسل. كان يخبر الركاب من وقتٍ لآخر عن تجاربه في رواندا، وقد سمع المخرج تيري جورج عن أحداث فندق "دي ميل كولين" بهذه الطريقة في عام 2002. انبهر جورج بالقصة وطلب من روسيساباجينا أن يرافقه إلى رواندا في رحلة استكشافية. وبعد مرور سنتين، صدر فيلم Hotel Rwanda في دور السينما.هكذا انقلبت حياة روسيساباجينا رأساً على عقب بين ليلة وضحاها، فتحوّل من سائق أجرة إلى شخصية مشهورة.استغل روسيساباجينا شهرته المفاجئة لإطلاق مسيرة مهنية جعلته يتنقل في أنحاء العالم كرمز لحقوق الإنسان. فراح يشارك في مسيرات السلام مع مشاهير من أمثال جورج كلوني والناجي من محرقة اليهود إيلي فيزيل، وقارنه الصحافيون بأوسكار شيندلر، رجل الأعمال الذي أنقذ أكثر من 1000 يهودي من النازيين.في البداية، كان روسيساباجينا يقدّر كاغامي باعتباره حرّر البلد من إرهاب ميليشيا "إنتراهاموي". لكن بدأت نظرته إلى بلده الأم تتغير، حين زاد تواصله مع الروانديين المنفيين في الخارج. انتقد روسيساباجينا في مذكراته An Ordinary Man (رجل عادي) كاغامي واعتبره حاكماً مستبداً، فكتب: "هذا البلد تحكمه مجموعة صغيرة من نخبة التوتسي وهو يحرص على خدمة مصالحها".ربما لم يكن روسيساباجينا معادياً للسلطة بشكلٍ مباشر قبل هذه المرحلة، لكنّ كتابه رسّخه كعدو صريح للدولة. فأعلن كاغامي بنبرة غاضبة أن رواندا لا تحتاج إلى "أبطال مفبركين... من صنع أوروبا أو أميركا".ثم استدعت حكومته شهوداً من فندق "دي ميل كولين" للتشكيك بدور روسيساباجينا خلال الإبادة الجماعية. كذلك ادعى رئيس وزراء رواندا السابق، بيرنارد ماكوزا، الذي يُعتبر موالياً لكاغامي، وكان قد اختبأ في ذلك الفندق عام 1994، أن روسيساباجينا لم ينقذ أعضاء التوتسي، بل سحب منهم المال بكل بساطة.تؤكد أوديت نيراميليمو، صديقة روسيساباجينا منذ سنوات عدة، أنها لم تشهد على أي حدث مماثل، بل إن "بول كان يهتم بالناس فعلاً"، وفق قولها. لكنها تضيف أن صديقها خسر جزءاً من توازنه بعد صدور الفيلم.تقول نيراميليمو إن روسيساباجينا كان يجول العالم في رحلات من الدرجة الأولى، وبدأت زوجته تذهب للتسوق مع نجوم مثل أنجيلينا جولي. وبعدما منحه الرئيس بوش وسام الحرية في عام 2005، طرح عليها السؤال التالي: "أوديت، لماذا لم أصبح رئيس رواندا حتى الآن"؟ فأجابته قائلة: "بول، أرجوك لا تخلط بين الواقع والفيلم". لكن تنكر أناييس، ابنة روسيساباجينا، هذه الأحداث وتقول: "لم يرغب أبي يوماً في أن يصبح رئيس رواندا. هو مواطن بلجيكي ولديه إقامة دائمة في الولايات المتحدة، ولم يعد إلى رواندا منذ سنوات".تابع روسيساباجينا تطوير مسيرته السياسية، فأنشأ "مؤسسة روسيساباجينا وفندق رواندا" التي تقدم الدعم لليتامى والأرامل في بلده الأم، وشارك في إطلاق "الحركة الرواندية من أجل التغيير الديمقراطي": يتألف هذا الائتلاف من جماعات المعارضة، ويشمل الجناح المسلّح من "جبهة التحرير الوطني".يقول روسيساباجينا في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز: "جبهة التحرير الوطني ليست منظمة إرهابية، بل إنها عبارة عن مجموعة أشخاص سئموا العيش خارج البلد في مخيمات اللاجئين... يحتاج هؤلاء إلى الاهتمام. هدفنا الأساسي هو جذب الانتباه إلى هذه الفئة".في عام 2009، اقتحم معتدون مجهولون منزل روسيساباجينا في بروكسل، ثم اضطر للهرب بسيارته. تقول أناييس إن والدها كان يخشى أن تتعرض عائلته للأذى، لذا انتقل مع زوجته من بلجيكا إلى تكساس.بذلت رواندا جهوداً كبرى لتجاوز حقبة الإبادة الجماعية. حتى هذا اليوم، تستمر محاسبة المتواطئين في المحاكم المحلية ويُكرّم نصب تذكاري ضحايا الإبادة الجماعية في كيغالي.لكن النقاد يتذمرون من إقدام حكومة كاغامي على تسويق قراءة منحازة للتاريخ، فتحصر الضحايا بجماعات التوتسي والمرتكبين بجماعات الهوتو. كل من يشكك بهذه العقيدة يُعاقب. في فبراير 2020، وُجِد مغنّ مشهور في رواندا مقتولاً بزنزانته. كان هذا الأخير قد استذكر ضحايا الهوتو في مجازر عام 1994 في إحدى أغانيه، وتم اعتقاله لهذا السبب.سرعان ما أصبح روسيساباجينا صوت المنفيين المنتمين إلى جماعة الهوتو والراغبين في التخلص من كاغامي. طوال سنوات، تبنى روسيساباجينا مبادئ التسامح واللاعنف، لكنّه أصبح متطرفاً اليوم وفق وثيقة سرية كتبها دبلوماسيون أوروبيون في كيغالي، واطّلعت عليها صحيفة "دير شبيغل". يعترف روسيساباجينا بأنه أطلق صراعاً مسلحاً في رواندا في العام 2018 ولا يعبّر عن ندمه على ما فعله.في مقابلة مع أحد الصحافيين، ألمح روسيساباجينا في إحدى المرات بأن كاغامي أَمَر شخصياً بإسقاط طائرة الرئيس جوفينال هابياريمانا في عام 1994 لزعزعة استقرار البلد، وهو يعتبر كاغامي المسؤول عن مقتل مليون شخص.في المقابل، تزعم حكومة رواندا أن "جبهة التحرير الوطني" قتلت 3 أشخاص في المنطقة الحدودية بين رواندا وبوروني في صيف عام 2018. لكن أعلن روسيساباجينا بعد مرور بضعة أشهر عن "دعمه الصريح" للميليشيا عبر فيديو على "يوتيوب". فقال فيه إن الوسائل السياسية في رواندا فشلت، لذا "حان الوقت كي نستعمل أي وسيلة ممكنة لإحداث تغيير حقيقي في رواندا". تزعم أناييس كانيمبا أن السلطات الرواندية استعملت كلمات والدها خارج سياقها الحقيقي. بحسب رأيها، أراد والدها بهذا الموقف أن يسلّط الضوء على محنة الروانديين في المنفى ومخيمات اللاجئين في الدول المجاورة.مسار المحاكمة
وقف جنود مع أسلحتهم الرشاشة خارج المحكمة العليا في كيغالي، وراح ضباط الشرطة يفتشون حقائب الزوار بحثاً عن المتفجرات. سيق بول روسيساباجينا، مع 20 سجيناً آخر، أمام صف من الصحافيين نحو قاعة المحكمة في صباح أحد أيام الجمعة من شهر مارس، وكان مكبّل اليدين ويضع قناعاً على وجهه.يتّهمه نظام كاغامي بالانتساب إلى منظمة إرهابية وارتكاب جرائم قتل وسرقة. يُفترض أن تُنقَل المحاكمة مباشرةً عبر موقع يوتيوب. في هذا السياق، يقول وزير الخارجية الرواندي فنسنت بيروتا: "نحن ندين بالعدالة لضحايا إرهاب جبهة التحرير الوطني".أصبح قسطنطين نيومونجير، القس الذي احتال على روسيساباجينا لجلبه إلى رواندا، من الشهود الأساسيين في المحاكمة. كان نيومونجير قد اعتُقِل أيضاً في وقتٍ سابق من السنة الماضية بتهمة دعم الإرهاب، ثم وافق على خداع روسيساباجينا مقابل النجاة من السجن. وأكد وزير الخارجية بيروتا أن حكومته هي التي دفعت تكاليف الطائرة الخاصة.يزعم روسيساباجينا، من جهته، أنه أراد أن يخاطب المؤمنين في بوروندي بكل بساطة. لكنّ هذه القصة ليست مقنعة بالكامل، فهو لم يَزُر أياً من أفراد عائلته خلال زمن "كورونا". وكان يُفترض أن يدرك مدى صعوبة أن يجد كنيسة قادرة على تحمّل تكاليف الطائرة الخاصة لاستضافة متحدث في بوروندي الفقيرة.روسيساباجينا هو زعيم "جبهة التحرير الوطني" بنظر حكومة رواندا التي تتّهمه أيضاً بجمع الأموال لمصلحة الميليشيات. كذلك، يبدو أن المحققين يتّكلون في عملهم على أدلة قدّمتها لهم بلجيكا. فتحت الشرطة في ذلك البلد تحقيقات منفصلة ضد روسيساباجينا، بعد اعتداءات "جبهة التحرير الوطني" في عام 2018. في بيان صحافي وجده المحققون في حاسوبه، يَصِف روسيساباجينا الثوار في الجبهة بعبارة "رجالنا ونساؤنا الذين يقودون الصراع المسلّح ضد قوات النظام". لكنه يصرّ على أن دوره كان دبلوماسياً محضا.قال روسيساباجينا داخل قاعة المحكمة: "أصبحتُ رهينة في هذا البلد وتعرّضتُ للخطف".من المستبعد أن يخضع روسيساباجينا لمحاكمة عادلة في كيغالي، إذ يبدو كاغامي مُصمّماً على إسكات منتقده الأساسي. يبلغ روسيساباجينا 66 عاماً اليوم. وإذا أدانته المحكمة، قد لا يخرج حياً من السجن مطلقاً.