ميّاس... امرأة تنحت حياتها!
كنتُ ولم أزل أرى في الجزء الأول من رواية "رباعية الإسكندرية-The Alexandria Quartet" للكاتب البريطاني لورنس داريل-Lawrence Durrell المعنون بـ "جوستين"، عملاً يحفر في الوجود النسوي بشكل لافت، حتى أنني أرى أن قراءة أي فتاة أو امرأة لهذا العمل الآسر سيزيدها معرفةً مهمة بعالم المرأة ورهافة مشاعرها، وقدرتها على اتخاذ قرارات تمسّ وتمضّ في مصيرها!رواية "هكذا كانت الوحدة-That Was Loneliness" للإسباني خوان خوسيه ميّاس- Juan Jose Millas"، أعادتني لقناعتي السالفة تجاه الكتابة عن المرأة، خاصة وأنا المفتون في الكتابة عنها، حتى أنها كانت البطلة لجميع أعمالي الروائية، باستثناء رواية "النجدي".مياس يكتب عن المرأة بخفّة قلم ساحرة. يكتب جملة يستلها برشاقة من الواقع، ويسكب عليها حبر سحر أسلوبه، فيشعر القارئ أنه سبق وعرف هذه الجملة وسبق ومرت على حياته، وأن ميّاس لم يزد عن انتزاع الكلمة من سياقها الإنساني اليومي المتداول، ليعيد تلمعيها وتزويقها، ومن ثمّ يضعها في جملة لتغدو لافتة، ولتحمل دلالة وإيحاء يتجاوزان الواقع!
ميّاس يكتب عن امرأة تدعى إيلينا، امرأة تعيش حياتها العادية في شقتها بمدريد مع زوجها إنريكي، وكم هي إشارة أنثوية دالة، أن تبدأ الرواية بمشهد إيلينا، وهي في الحمام تنزع الشعر عن ساقيها، ولحظتها يرنّ هاتفها لتعرف بوفاة أمها!ربما كانت رواية "هكذا كانت الوحدة" الصادرة ضمن "سلسلة الجوائز" عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، بترجمة ناريمان الشاملي، واحدة من أكثر روايات خوان خوسيه ميّاس انتشاراً في العالم، وبالرغم من أنها تتناول تحولات حياة امرأة، فهي رواية كرّسها ميّاس لتتناول موضوعاً إنسانياً يخصّ الرجل بقدر ما يخصّ المرأة، وهو كيف يتوقف الإنسان في لحظة مفصل ليعيد تشكيل نفسه، عبر تشكيل علاقته بشريك حياته: "أشعر هذه الأيام بأنني أواجه نفسي مثل نحّات يقف أمام صخرة يجب أن يحذف منها كل ما هو غير جوهري" (ص 156). كم هو قاصف للظهر أن ينبري طرف في علاقة زوجية ناجزة، وفيها أبناء كبار، حيث إن "مرسدس" ابنة إيلينا فتاة متزوجة وفي مرحلة حملها بطفلها الأول! ينبري ليتخذ قرار الانفصال! كثيرون هم في طول العالم وعرضه، رجل وامرأة، زوج وزوجة تقطّعت بهما سبل الحياة الزوجية، وباتا يعيشان معاً ولا يعيشان، يعيشان وهما يكمّلان صورتهما أمام المجتمع وأسرتهما، ويضع كل منهما رأسه على المخدة وحسرة العيش تكوي قلبه! فكلاهما ينتمي إلى حياة أسرية لا روح فيها. ومن هنا تبدو "إلينا" بطلة ميّاس امرأة قوية بكل ما تحمل هذه العبارة من معنى! إيلينا، يأتي موت أمّها ليكون موعداً لميلادها في كشفها عن حياتها الخاصة، يأتي موت الأم ليكون دافعاً كافياً، لأنّ تبدأ إيلينا رحلة قراءة مفاصل علاقة حياتها وزوجها. وهي، وهذه حيلة فنية فذّة يجيدها ميّاس في كثير من أعماله المبدعة، حيث تقوم بتأجير تحرٍّ لكي يقدم لها تقريراً عن حركة زوجها وسفره مع عشيقته، لكنّها سرعان ما تنحرف عن مهمة ملاحقة زوجها لتكلّف المحقق بتعقّبها هي، وعمل تقارير عن تحركاتها في حياتها اليومية. ودهاء ميّاس المبدع، يشير إلى درايته المتعمقة بالنفس البشرية، وهو من درس الفلسفة، بحيث يعلم أن الإنسان أحوج ما يكون لرؤية نفسه بعيون الآخر، خاصة إذا كان يحيا في ظل علاقة زوجية باردة حد الموات، وليس من بوح أو مكاشفة أو حتى ملاسنة من أيّ طرف تجاه الآخر!إيلينا، وبعد رحلة لها مع زوجها، وكانت بمنزلة الضربة القاضية الفنية لعلاقتهما، تعود إلى مدريد لتذهب مباشرة لتستأجر غرفة في فندق، مُعلنة اتخاذها لقرار الانفصال عن زوجها من طرف واحد، ولسان حالها يقول: "هذه علاقتي ولي وحدي أن اتخذ قراراً مصيرياً يخصّها. تتخذ هي قرارها ليس بعد أن عرفت بمغامرات زوجها، وليس لبُعده عنها الذي اعتادت عليه. لكنها تتخذ قرارها بعد أن تيقّنت أن لا شيء في شأن الحياة يجمع بينهما!رواية "هكذا كانت الوحدة" تحقق هدف الفن الأسمى، بأن يزداد الإنسان معرفة بالحياة وبنفسه!