في عام 1812، تَعِب جيش نابليون من السهوب الروسية وشاهدوا سكان موسكو وهم يهجرون مدينتهم ويحرقونها بدل تسليمها إلى قواته العسكرية، فقال نابليون عن الروس بكل يأس: "أي نوع من الرجال هؤلاء؟! إنهم سكيثيون"! كان يعني بكلامه فرسان البدو غير القابلين للهزيمة في العصور القديمة، وبحلول القرن العشرين، استنتج المؤرخ هنري آدامز أن مشكلة روسيا المستعصية لطالما كانت مؤثرة بالنسبة إلى أوروبا المعاصرة وأن "آخر وأهم انتصار في التاريخ يقضي بجلب روسيا إلى الكيان الأطلسي".

لطالما أثبتت روسيا أنها صلة وصل بعيدة جداً عن مخططات الغرب المعاصر، ويجب أن يتقبل الغربيون هذا الواقع للأسف، ويُعتبر انتقاد بوتين بسبب انتهاكاته لحقوق الإنسان مجرّد موقف لائق، لكنه لن يفيد في شيء لمواجهة معضلة روسيا الأبدية. تحمل طريقة تعامل بوتين مع المعارض ألكسي نافالني طابعاً روسياً بامتياز ومستوحى مباشرةً من فيودور دوستويفسكي وألكسندر سولجينتسين، فقد قرر وضعه في معسكر سيئ السمعة خارج موسكو، حيث يقوم السجناء بأشغال يدوية ويُجبَرون على التزام الصمت لساعات وهم يضعون أيديهم وراء ظهرهم، ففي غضون ذلك، لا يزال بوتين يتمتع بصحة جيدة وقد يبقى في السلطة لسنوات عدة، وتترافق العهود الطويلة دوماً مع ترسيخ شرعية الحكام في العالم الجيوسياسي غير الأخلاقي.

Ad

ثمة حقيقة مؤلمة واضحة: لن يكون ردع بوتين واستنكار معاييره الأخلاقية كافيَين، بل ثمة حاجة إلى التواصل معه أيضاً لأن فرص تغيير نظامه كي يصبح مشابهاً للنموذج الغربي تضاهي فرص إعادة تشكيل روسيا خلال التسعينيات أو احتمال أن يضيف نابليون أو هتلر روسيا إلى إمبراطوريتهما.

تتشابك روسيا مع أهم اللاعبين الجيوسياسيين في العالم، تُعتبر روسيا مثلاً أساسية بالنسبة إلى ألمانيا، أقوى دولة في الاتحاد الأوروبي. لا يريد الألمان إنهاء خط أنابيب الغاز الطبيعي "نورد ستريم 2" من روسيا لأنه مشروع أساسي في الاقتصاد الألماني (يستطيع الألمان عند الحاجة أن يحصلوا على الغاز من شبكة خط الأنابيب المتوسطية أو من أميركا الشمالية عبر محطات تحويل الغاز الطبيعي)، بل يحتاج الألمان إلى مشروع "نورد ستريم 2" لأنه سيوفر لهم إمدادات رخيصة ومباشرة من الطاقة ويضمن استقرار العلاقة السياسية التي تربطهم بروسيا، تلك الدولة التي يعتبرونها أكبر وأقوى من أن تتغير أو تتعرّض للهزيمة. باختصار، تقبّل الألمان وضع روسيا بكل بساطة.

بذل الألمان قصارى جهدهم لدعم ألكسي نافالني ضد بوتين، لكنهم لم يلغوا مشروع "نورد ستريم 2"، ويسهل أن يتقبل بوتين هذه الاستراتيجيةـ إذ يدرك الألمان أن الأهداف التي يمكن تحقيقها مع روسيا تبقى محدودة، مع أنهم يعرفون أن هذا البلد لا يطرح عليهم أي تهديد عسكري. (في ما يخص مصير دول البلطيق وبولندا، يعرف الألمان أيضاً أن الأميركيين يستطيعون في نهاية المطاف الدفاع عن جيرانهم الشرقيين). يعكس السلوك الألماني أبرز واقع مأساوي في العالم: يُقابَل الاعتراف العلني بحقوق الإنسان بواقع سياسي وحشي وغير معلن، لكن يبدو أن الأميركيين القابعين على بُعد محيطات شاسعة من هذا الواقع، على عكس الألمان، لم يدركوا بعد هذه الحقيقة الصعبة.

يُضعِف العصر السيبراني طبعاً الحماية التي توفرها تلك المحيطات ويثبت في الوقت نفسه خطورة الاعتداءات الروسية. نظراً إلى انكماش المساحات الجغرافية وتراجع هامش الخطأ المسموح به من الجانب الأميركي، ثمة حاجة إلى إبداء رد قوي وتعزيز التواصل بشأن روسيا.

يخدع الأميركيون أنفسهم حين يدّعون أن روسيا تزداد ضعفاً، مما يعني أنهم ليسوا مضطرين للتوافق معها كما فعل الألمان. تشمل هذه الفرضية الأميركية ما يكفي من الجوانب الحقيقية كي يصدّقها الكثيرون، مع أن التحليل النهائي الذي ترتكز عليه يبقى شائباً.

يجب ألا يستخف أحد بالقوة الروسية، فقد أثبتت موسكو قدرتها على إطلاق اعتداءات إلكترونية هائلة، والتدخل في الانتخابات الأميركية، وتأمين النفط والغاز لمعظم مناطق العالم، كما أنها أكبر مُصدّرة للحبوب في العالم، كذلك تقول كاثرين ستونير، خبيرة في الشؤون الروسية ونائبة مدير "معهد فريمان سبوغلي" في جامعة "ستانفورد"، إن روسيا تبيع كميات ضخمة من محطات الطاقة النووية، ومواد البناء، والنيكل، والماس، ومعدات التعدين المتقدمة، والأسلحة المتطورة تكنولوجياً.

على صعيد آخر، كان دخول روسيا إلى الشرق الأوسط دليلاً على توسع هذه القوة العظمى بدل انحسارها، فقد افترض الأميركيون سابقاً أن روسيا ستُعاقَب على تورطها العسكري في سورية مثلما عوقب الأميركيون في العراق، لكن تعلّم الروس درساً مختلفاً من هذه التجربة، فقد استنتجوا أن ثمن المغامرات العسكرية في هذا العالم يبقى منخفضاً جداً طالما يمتنع البلد عن إرسال أعداد كبيرة من القوات الميدانية، ويمكن الاستفادة من هذا الدرس في عمليات التدخل المستقبلية.

لا توشك روسيا على الانهيار إذاً، حتى أنها لن تضعف بدرجة فائقة. سيتابع بوتين مغامراته حين تسنح له الفرصة، وحتى لو مَرِض بوتين أو تنحى من منصبه، من الخطير أن نتوقع نشوء نظام أفضل من الذي سبقه، فقد تتفكك روسيا أو تقع بيد قوميين متعصبين وأقل مسؤولية من الزعيم الحالي. بوتين هو مجرّد تجسيد للواقع.

اليوم، يُعتبر الوضع بين الولايات المتحدة وروسيا غير مستقر، ولا يتعلق السبب بإقدام الغرب على توسيع منظمة حلف شمال الأطلسي بناءً على حلف وارسو القديم بقدر ما يرتبط بقرار توسيع الأعضاء وضمّ ثلاث من دول البلطيق التي كانت في السابق جزءاً من الاتحاد السوفياتي وتُعتبر حدودها قريبة على نحو خطير من سانت بطرسبرغ وموسكو. يعتبر بوتين هذه الخطوة استفزازاً تاريخياً وجغرافياً وهو مُلزَم بمحاولة التصدي لهذا الوضع في جميع الظروف. تبرز أيضاً مشكلة منطقة أوكرانيا وشبه جزيرة القرم والبحر الأسود، حيث يتداخل الصراع الجامد الذي أطلقته روسيا مع وجود الناتو البحري.

بشكل عام، تقضي استراتيجية روسيا باسترجاع حدود الاتحاد السوفياتي القديم ومناطق الظل التابعة له بطريقة ما، وفي المقابل، يحاول الغرب منعها من تحقيق ذلك، لكن بما أن هذا الصراع سيكون طويلاً ولن يتّضح الفائز به، تحتل الدبلوماسية والتسويات أهمية كبرى. حتى لو نشأ نظام روسي أكثر ليبرالية، ستستفيد موسكو من توسيع نفوذها ما وراء مناطقها الحدودية. يجب ألا ننسى أن روسيا لم تتعرض للغزو على مر التاريخ من جانب فرنسا وألمانيا فحسب، بل من الفرسان السويديين والليتوانيين والبولنديين والجرمان أيضاً، مما يعني أنها ستبقى قوة مضطربة وغير آمنة ومعرّضة للاعتداءات دوماً.

لا يستطيع أي طرف أن يحقق انتصاراً نهائياً في هذه اللعبة الجيوسياسية المعقدة: لا يمكن تغيير النظام عبر دعم المعارضين الروس الضعفاء والمنقسمين في ما بينهم، حتى لو كانوا جميعاً ضد بوتين.

كذلك يجب ألا ننسى أن الصين، القوة العظمى الأخرى في هذا الصراع، باتت اليوم أقرب إلى روسيا من أي مراحل تاريخية سابقة وقد زادت قوتها بفضل التدريبات العسكرية المشتركة وعمليات شراء الغاز الطبيعي الروسي.

لا تستطيع الولايات المتحدة أن تتابع التصدي للصين وروسيا على جميع المستويات عبر تبنّي شكلٍ من الازدراء الأخلاقي القائم على الدبلوماسية والضغوط الاقتصادية من دون أن يتطور التحالف الصيني الروسي القادر على الصمود لسنوات عدة، حتى أنه قد ينجح في تبديد القوة الأميركية بحد ذاتها. حين انفتح الرئيس ريتشارد نيكسون ومستشار الأمن القومي هنري كسنجر على الصين للتصدي لروسيا ثم صمّما سياسة الانفراج مع روسيا، كانت "الثورة الثقافية" قيد التطوير في الصين وكانت روسيا لا تزال تشمل معكسراً شاسعاً من معكسرات "الغولاغ". لكنّ هذه العوامل لم تمنع إدارة نيكسون من التحرك، ولم تعكس هذه المقاربة سخطاً عارماً أو تناقضاً كبيراً، بل شكّلت اعترافاً صريحاً بواقع العالم. ستبدأ أي سياسة تواصل ناضجة مع هذين البلدَين الاستبدادَين اليوم بالاعتراف بهذا الواقع.

التواصل ليس مرادفاً للاسترضاء، بل إنه يقضي بالجمع بين أشكال مختلفة من الضغوط والدبلوماسية لاستكشاف المجالات التي تسمح لروسيا والولايات المتحدة بالتعاون بهدف تخفيف التوتر بين الطرفين وتشجيع روسيا على الابتعاد عن تحالفها أحادي الجانب مع الصين. ستستفيد روسيا من وضع الولايات المتحدة في وجه الصين وسيستفيد الغرب كله من هذا الحدث أيضاً، ويُعتبر أي نوع من التحركات المماثلة إيجابياً نظراً إلى وضع العلاقات الأميركية الروسية القاتمة والعدائية اليوم.

يبدو الإنجاز الذي حقّقه نيكسون وكيسنجر مستحيلاً في الوقت الراهن. في تلك الحقبة، كانت روسيا والصين في حالة حرب وسمح الوضع القائم للولايات المتحدة بتوسيع هامش مناوراتها، لكنّ الجهود الرامية إلى تفكيك التحالف الروسي الصيني لا تزال ممكنة، إنها الوجهة التي يحتاج إليها الأميركيون اليوم على الأقل، ولن يكون الاكتفاء بمحاسبة روسيا سياسة بحد ذاتها، ويُفترض أن نتعلم هذا الدرس من نابليون!

روبرت د. كابلان – ناشونال إنترست