ديمقراطيات العالم تحتفظ باللقاحات لنفسها
تعهدت الولايات المتحدة بإرسال ما مجموعه 4 ملايين جرعة من لقاح "أسترازينيكا" إلى كندا والمكسيك، وحتى الآن، يُعتبر الالتزام بتوفير مليونَين ونصف المليون لقاح إلى المكسيك أكبر تعهد يقوم به بلد واحد تجاه بلد آخر في هذه الأزمة، وستصل تلك الجرعات إلى بلد مجاور بات بأمسّ الحاجة إلى اللقاح، فقد سجّلت المكسيك أكثر من 200 ألف حالة وفاة مؤكدة بسبب كورونا وتأتي في المرتبة الثالثة بعد البرازيل والولايات المتحدة اللتين تتفوقان عليها من حيث عدد السكان، كذلك تضاعف عدد الإصابات الإجمالية في المكسيك منذ 1 يناير.لكن يُعتبر التعهد الأميركي بتقديم اللقاحات استثناءً لافتاً على القاعدة العامة: في خضم المعركة القائمة ضد وباء اخترق حدود الدول وقتل ملايين الناس حول العالم، تحتفظ الدول القوية التي تستطيع الوصول إلى اللقاحات بعدد هائل من الجرعات لنفسها. دفعت الديمقراطيات أموالاً طائلة لبرنامج "كوفاكس" العالمي، لكنها لم تكن مستعدة بالقدر نفسه للتخلي عن اللقاحات التي يسهل أن يتلقاها مواطنوها في أسرع وقت.من المبرر أن يفضّل القادة الوطنيون إعطاء اللقاحات لمواطنيهم، لكن من الواضح أن غياب الإنصاف في توزيع اللقاحات يعوق الجهود العالمية لمحاربة الوباء، حتى أن هذه المقاربة تبدو قصيرة النظر من الناحية الدبلوماسية، كذلك ستكون أي جرعات مستقبلية يقدمها برنامج "كوفاكس" والمتبرعون الغربيون أشبه بمواساة ضعيفة للدول التي تتوق إلى تلقي اللقاحات اليوم. ستتذكر تلك الدول الجهات التي هبّت لمساعدتها وتوقيت وصول تلك المساعدات، ونتيجةً لذلك سيؤدي الامتناع عن تلبية تلك الحاجات فوراً، في حين تحرص قوى أخرى على تسويق تبرعاتها بطريقة مكثفة، إلى ترسيخ الفكرة العالمية القائلة إن جزءاً كبيراً من الديمقراطيات التي فشلت في التعامل مع أزمة كورونا محلياً يسيء التعامل مع الأزمة خارجياً اليوم. قد تكسب الصين وروسيا النفوذ مستقبلاً لأنهما تتبرعان باللقاحات للدول الأخرى راهناً.
كان السياسيون الغربيون محقين حين لاحظوا أن برنامج "كوفاكس" يخطط لتسليم كميات إضافية من جرعات اللقاحات إلى عدد أكبر بكثير من الدول التي تستطيع هبات الصين أو روسيا مساعدتها، لكن لن يحتاج "كوفاكس" إلى التمويل فحسب، بل إلى كميات كبيرة من اللقاحات أيضاً، وفي ظل تأخّر عمليات التصنيع ونقص المواد الخام، تعطي الولايات المتحدة والدول الأوروبية الأولوية لحاجاتها المحلية، فتَحِدّ من عمليات التصدير التي سيحتاج إليها "كوفاكس" للنجاح في مهمته. تعهدت الولايات المتحدة ودول أوروبية كثيرة بالتبرع بالجرعات الفائضة من اللقاحات بعد تلبية حاجاتها المحلية، لكن لم يُحدد أي منها توقيت تلك الهبات أو طريقة توزيعها.تعهدت الصين والهند بتقديم أقل من 300 ألف جرعة إلى كل بلد مستفيد، وتبقى معظم التبرعات الروسية صغيرة بالقدر نفسه وتَقِلّ عن 20 ألف جرعة، حتى أن بعض التبرعات يقتصر على 20 جرعة، وهي عبارة عن عيّنات مجانية تحصل عليها الدول التي تفكر بشراء اللقاحات التي يرفضها عدد كبير من الروس. تعهدت الإمارات العربية المتحدة حتى الآن بتقديم 100 ألف جرعة فقط إلى أي بلد، وكانت هذه التبرعات كافية لبدء حملات التلقيح في بعض الدول وإثبات حُسن نية المتبرعين، لكن لن تكون هذه الكميات كافية لتلبية الطلب المحلي أو العالمي.يجب ألا يكون توزيع لقاحات كورونا غير عادل، ولن يتحقق ذلك إلا إذا وصلت الجرعات النادرة الأولى إلى الدول التي تشهد أخطر أزمة صحية بسبب كورونا وحيث تعطي تلك اللقاحات أكبر المنافع، لكن تَقِلّ الأدلة التي تثبت أن المتبرعين باللقاح، من دول استبدادية أو ديمقراطية، يلتزمون بهذا المعيار، وتكشف معظم الأدلة أن قراراتهم تتأثر بالمعطيات الجيوسياسية أكثر من العوامل الوبائية. سجلت منطقة آسيا والمحيط الهادئ، حيث تتصارع الولايات المتحدة والصين واليابان والهند وروسيا والقوى الإقليمية الأصغر حجماً على النفوذ، 8% فقط من إصابات كورونا في العالم منذ نوفمبر الماضي، لكنها تلقّت أكثر من نصف اللقاحات التي تبرعت بها دول العالم. ستقدم الصين والهند معاً مليونَي جرعة إلى ميانمار، و1.8 مليون إلى نيبال، و1.1 مليون إلى كمبوديا، و900 ألف إلى أفغانستان، مع أن هذه الدول سجّلت حالات قليلة نسبياً من "كوفيد19" في الأشهر الأربعة السابقة، كذلك تبرّعت الصين وروسيا معاً بأكثر من 300 ألف جرعة إلى لاوس، وعلى صعيد آخر سيوفر التعهد المشترك الذي أعلنه التحالف الرباعي (الولايات المتحدة، الهند، اليابان، أستراليا) الشهر الماضي لقاحات إضافية للمنطقة نفسها، فقد وعدت تلك البلدان بإنتاج مليار جرعة وتوزيعها على دول آسيا والمحيط الهادئ بحلول نهاية عام 2022.تدخل هذه الجهود في إطار "دبلوماسية اللقاحات" وتثبت أن التبرعات تنجح في توسيع نطاقات النفوذ أكثر من دعم المساواة في توزيع اللقاحات وإنهاء هذا الوباء، وتشارك جميع الدول التي تعهدت الصين بتقديم اللقاح لها في "مبادرة الحزام والطريق"، باستثناء دولة واحدة، كذلك، طرحت الصين نفسها كداعمة فعلية لتسليم لقاحات كورونا إلى قوات حفظ الأمن التابعة للأمم المتحدة وأي رياضي يحتاج إلى اللقاح قبيل الألعاب الأولمبية في طوكيو في الصيف المقبل والألعاب الأولمبية الشتوية في بكين خلال السنة القادمة.في المقابل، تلقّت دول في أميركا اللاتينية وأجزاء من إفريقيا وأوروبا الوسطى والشرقية تبرعات أقل بكثير مما تحتاج إليه قبيل ارتفاع الإصابات بفيروس كورونا في الفترة الأخيرة، وبدءاً من 25 مارس، لم يتم التبرع ولو بجرعة واحدة من اللقاحات إلى بنما أو بيرو أو جنوب إفريقيا أو أوكرانيا، مع أن هذه الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط سجّلت مُجتمعةً نحو 3 ملايين إصابة منذ أكتوبر.سيكون قرار إدارة بايدن بتأمين جرعات من اللقاح إلى المكسيك خطوة حذرة باتجاه ترسيخ مظاهر العدالة حول العالم، ومن اللافت أيضاً أن تكون هذه الهبة على شكل قرض، مما يعني أن المكسيك ستردّ على هذه المبادرة مستقبلاً بجرعات من لقاح "أسترازينيكا" إذا احتاجت إليها الولايات المتحدة. إنها طريقة ممكنة سياسياً كي تساعد أي دولة ديمقراطية البلدان المجاورة لها، بما أن الناخبين قد لا يؤيدون تقديم الجرعات إلى دول خارجية إذا كان المواطنون ما زالوا بحاجة إليها محلياً. يتزامن هذا القرض الأميركي مع محاولة إدارة بايدن توسيع تعاونها في أزمة الهجرة على حدودها، وتشمل هذه الصفقة لقاحاً لم تصادق عليه "إدارة الغذاء والدواء" الأميركية وقد لا تحتاج إليه الولايات المتحدة في نهاية المطاف، لكنّ هذه الوقائع لا تلغي أهمية هذه الخطوة لتقوية "دبلوماسية اللقاحات" بناءً على حاجات الدول.على الأميركيين وحلفائهم أن يتخذوا مبادرات أخرى الآن، حيث يحتاج برنامج "كوفاكس" إلى المساعدة بكل وضوح، ولتكثيف صناعة اللقاحات وتسريعها في زمن الوباء، ثمة حاجة كبرى إلى تأمين التمويل ودعم السياسات الحكومية، فهذا ما أثبتته التجربة الأميركية في مجال تطوير اللقاحات، كذلك، تبرز الحاجة إلى إطلاق جهود دولية مشابهة لزيادة قدرات تصنيع اللقاحات بطريقة لا يمكن تحقيقها عبر التبرعات المالية وحدها، ولن تتمكن الولايات المتحدة وحلفاؤها من طرح خطاب مقنع ومضاد للتبرعات الرمزية التي تخدم المصالح الصينية والروسية من دون بذل جهود كافية للسيطرة على هذا الوباء.