في الأسبوع الماضي، شارك وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في مؤتمر صحافي خلال زيارته لكوريا الجنوبية مع وزير الدفاع لويد أوستن، فدعا إلى تجديد الجهود الدبلوماسية وشدد على الدور الذي تستطيع الصين الاضطلاع به قائلاً: "يُعتبر دور الصين محورياً لإقناع كوريا الشمالية بمتابعة نزع الأسلحة النووية، فالعلاقة التي تربط الصين بكوريا الشمالية فريدة من نوعها. تحصل معظم عملياتها الاقتصادية والتجارية مع الصين أو تمرّ بها، مما يعني أن التأثير الصيني كبير، كذلك أظن أن الصين تشاركنا رغبتنا في التحرك للتعامل مع البرنامج النووي الكوري الشمالي وتتقاسم رأينا حول خطورة برنامج الصواريخ البالستية، وبغض النظر عما سيحصل في المرحلة المقبلة، أتمنى أن تستعمل الصين ذلك النفوذ بفاعلية لحث كوريا الشمالية على نزع الأسلحة النووية".

نظرياً، قد تبدو تعليقات بلينكن منطقية، لكنها تبقى ساذجة على أرض الواقع، يُركّز بلينكن بكل بساطة على الأحداث الراهنة لكنه يتجاهل على ما يبدو التطورات السابقة، حتى أنه حاول استمالة بكين لتسهيل نزع الأسلحة النووية الكورية الشمالية. تستكشف دراسة "الرقص مع الشيطان" الجهود الدبلوماسية الماضية مع الأنظمة الفاسدة.

Ad

بدأت القصة في 8 أكتوبر 1983، حين نقل الدبلوماسيون الصينيون رسالة من كوريا الشمالية إلى السفارة الأميركية في بكين للتعبير عن استعداد بيونغ يانغ للمشاركة في محادثات ثلاثية، وتزامناً مع الحشد العسكري الذي أطلقه الرئيس ريغان في كوريا الجنوبية، قررت قيادة كوريا الشمالية التخلي عن اعتراضها على مشاركة سيئول، علماً أن هذا الاعتراض كان أساس رفضها لعرض الرئيس جيمي كارتر بتأدية دور الوساطة في المحادثات.

كان التفاؤل بشأن صدق كوريا الشمالية قصير الأمد، فقد حاول عملاؤها في اليوم التالي اغتيال الرئيس تشون دو هوان ومعظم الوزراء في حكومته خلال زيارة لهم إلى بورما، وبعد ذلك التفجير، تراجع دعم ريغان للجهود الدبلوماسية تجاه كوريا الشمالية. لكن في يناير 1984، نقل رئيس الوزراء الصيني زاو زيانغ رسالة من كوريا الشمالية إلى ريغان مجدداً للتعبير عن دعم البلد لمحادثات ثلاثية بين الكوريتَين والولايات المتحدة. كان ذلك العرض عبارة عن محاولة شفافة من بيونغ يانغ وبكين لتمكين كوريا الشمالية من تجنّب عواقب أفعالها وقد نجح في تحقيق هذا الهدف، إذ يسعى الدبلوماسيون عموماً إلى عقد المحادثات ويبدون استعدادهم لنسيان الماضي كي لا يصبح التاريخ عائقاً أمام إحراز التقدم المنشود، لكن كوريا الشمالية أثبتت مجدداً أنها لم تكن صادقة، وفي نوفمبر 1987، قصف عميلان كوريان شماليان الرحلة الجوية الكورية رقم 858 التي كانت متّجهة من بغداد إلى سيئول، مما أسفر عن مقتل 115 شخصاً، وأرادت بيونغ يانغ بهذه الطريقة أن تُضعِف الشرعية التي يمكن أن تكتسبها سيئول عبر استضافة دورة الألعاب الأولمبية.

بعد انتهاء الألعاب الأولمبية، أعلن رئيس كوريا الجنوبية، روو تاي وو، أن سيئول ستنهي سياستها المبنية على محاولة عزل كوريا الشمالية، فقد تبنّى البيت الأبيض هذه الأفكار واعتبرتها وزارة الخارجية الأميركية "تغييراً جذرياً وتاريخياً في سياسة كوريا الجنوبية التقليدية". لكن برأي الدبلوماسيين، لم تُطرَح المقاربة الجديدة بسرعة كافية. في عام 1980، رصد قمر اصطناعي مُصمَّم لعمليات التجسس مشروع بناء مفاعل نووي في "يونغبيون"، على بُعد 60 ميلاً من شمال بيونغ يانغ، وبعد مرور أربع سنوات، رصدت الأقمار الاصطناعية أيضاً فجوات تشير إلى التجارب التي أجرتها كوريا الشمالية على صواعق التفجير المستعملة في القنابل النووية.

أخفى الرئيس ريغان مخاوفه من موقع "يونغبيون" النووي كي يتسنى له أن يطلق هجوماً مفاجئاً عند الحاجة، لكن قرر نائب الرئيس السابق وخلفه جورج بوش الأب وضع الدبلوماسية في صلب مقاربته، وتعليقاً على الموضوع، أوضح وزير الخارجية جيمس بايكر: "كانت استراتيجيتنا الدبلوماسية مُصمّمة لزيادة الضغط الدولي على كوريا الشمالية وإجبارها على تنفيذ بنود اتفاقياتها". استمرت الجهود الدبلوماسية على مر عهد بوش الأب، وفي 18 ديسمبر 1991، أعلن زعيم كوريا الجنوبية، روو تاي وو، أن القوات الأميركية أنهت عملية نزع ترسانتها النووية التكتيكية من كوريا الجنوبية، وبعد أسبوع تقريباً، وافقت كوريا الشمالية على توقيع "معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية" وسمحت بوصول المفتشين إلى "يونغبيون".

خلال الأسابيع القليلة اللاحقة، وقّع مسؤولون من الكوريتَين على "إعلان نزع السلاح النووي بين الشمال والجنوب" حيث يتعهد البلدان بالتخلي عن إعادة معالجة البلوتونيوم وتخصيب اليورانيوم، ووافقا على عدم اختبار الأسلحة النووية أو تصنيعها أو إنتاجها أو امتلاكها أو نشرها أو استخدامها. كذلك، اتفق الطرفان على حصول عمليات التفتيش من جانب لجنة مشتركة. في البداية، بدا وكأن بوش وجد المعادلة السحرية للتعامل مع هذا الملف، فنَسَب بايكر رضوخ بيونغ يانغ إلى "دبلوماسية الصبر"، وكتب في مذكراته: "كانت الدبلوماسية الأميركية مسؤولة مباشرةً عن إنهاء ست سنوات من التعنّت الكوري الشمالي".

هنّأ بايكر نفسه على هذا الإنجاز، لكن أدرك المسؤولون في بيونغ يانغ وداعموهم في بكين أن بايكر كان يائساً واستنتجوا أنهم يستطيعون تحقيق مكاسب أخرى من الأميركيين عبر متابعة الصراع وانتزاع المزيد من التنازلات، وتحدّت كوريا الشمالية اتفاق نزع السلاح النووي وحاول الرئيس بيل كلينتون الاستفادة من تأثير بكين على بيونغ يانغ، لكن المشكلة الفعلية تعلقت بعدم استعداد بكين لمساعدة غيرها بلا مقابل، مما يعني أن تعاونها يترافق مع ثمن معيّن، وكان ذلك الثمن يقضي بتخفيف الشروط المطلوبة من كوريا الشمالية عبر إضعاف مواقف مجلس الأمن الشاجبة لدرجة أن تخسر أهميتها، كذلك نسفت الصين خطوة مجلس الأمن بعدما أعلنت كوريا الشمالية نيّتها التخلص من قضبان الوقود المُشِعّة في "يونغبيون"، علماً أن هذه العملية كانت ستقضي على الأدلة التي تكشف نوايا بيونغ يانغ الحقيقية وتُمكّن كوريا الشمالية من فصل البلوتونيوم.

وحين بدأ إطار العمل المتفق عليه في عام 1994 يتفكك، أدرك الحكام الصينيون أنهم يستطيعون الاستفادة من الولايات المتحدة مقابل إبقاء كوريا الشمالية تحت السيطرة ظاهرياً، حاولت إدارة جورج بوش الابن تطبيق مبدأ "الأفعال مقابل الأفعال"، فزادت المساعدات الغذائية التي قدّمتها إلى بيونغ يانغ مقابل عدم تشغيل مفاعلها النووي، وعندما أعلن نقاد من أمثال جون بولتون أن مكافأة كوريا الشمالية على تمرّدها سيُشجّعها على متابعة سلوكياتها السيئة، اعتبر مجلس الأمن القومي أن طريقة تعامله مع هذا الملف اختلفت بعد إشراك الصين في هذه الجهود، لكن حتى لو أصبحت الصين أكثر مرونة في مواقفها، ترافق استعدادها للمشاركة في الجهود الدبلوماسية مع كلفة باهظة. تخلى كلينتون في الأسابيع الأخيرة من عهده عن العقوبات المفروضة على الصين بسبب نشرها للصواريخ مقابل وعد صيني بالامتناع عن تطوير هذه التكنولوجيا، ثم عمدت الشركات الصينية إلى بيع تقنيات دقيقة إلى إيران.

كانت الأوهام المتلاحقة التي حملتها وزارة الخارجية الأميركية عن الصين تشتق من قراءة خاطئة للمصالح الصينية: حذر المفكرون الكوريون الجنوبيون وزارة الخارجية الأميركية مراراً حول وجود تضارب بين هوس الصين باستقرار كوريا الشمالية ورغبتها في استعمال بيونغ يانغ كحاجز لحماية نفسها من جهة، ومصالح الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية من جهة أخرى.

بالعودة إلى موقف بلينكن اليوم، كان اقتراح التعاون مع الصين لاحتواء كوريا الشمالية والسيطرة عليها يبدو منطقياً لو لم تُجرّبه الإدارات الأميركية السابقة في مناسبات متكررة، فقد أثبت هذا الطرح فشله في كل مرة منذ عهد ريغان قبل أربعة عقود. لم يبدأ التاريخ مع تنصيب جو بايدن ولا تحمل الولايات المتحدة أفكاراً أو أهدافاً مسبقة، وما من معادلة سحرية لتحقيق النجاح في ملف كوريا الشمالية، لكن الاستراتيجيات المعتمدة تكون محكومة بالفشل أحياناً، وإذا قرر المسؤولون الاتكال على مبادرات بكين وحُسْن نواياها، ستتشجع الصين على خوض لعبة مزدوجة، مما يعني تأجيج الأزمات العابرة لحصد المكاسب، حتى أن بكين قد تستغل مشكلة كوريا الشمالية لتوسيع الشرخ بين واشنطن وأهم حلفائها في المنطقة: كوريا الجنوبية واليابان.

* محلل دائم في "معهد أميركان إنتربرايز" وخبير في شؤون إيران وتركيا والشرق الأوسط عموماً، ويعطي دروساً حول صراعات الشرق الأوسط والثقافة والإرهاب والقرن الإفريقي لوحدات القوات البحرية الأميركية.

مايكل روبين – ناشونال إنترست