مخاطر سياسة الهند في ميانمار
بدأ مسار الهند الشائك في ميانمار يزداد تعقيداً، ففي ظل تصاعد حملة القمع التي أطلقها المجلس العسكري في ميانمار ضد الناشطين المنادين بالديمقراطية في الأسابيع الأخيرة (قُتِل أكثر من 300 محتج حتى الآن، بمن في ذلك عشرات المراهقين)، يستمر توافد الهاربين نحو ولاية "ميزورام" في شمال شرق الهند عبر الحدود، منهم رجال شرطة رفضوا الانصياع لأوامر المجلس العسكري بإطلاق النار على الناشطين المعترضين على الانقلاب العسكري الذي شهده البلد في 1 فبراير.طلب المجلس العسكري من الهند ترحيل الشرطيين إلى ميانمار، لكن الهند لم تتخذ هذه الخطوة بعد، وفي الوقت نفسه، أثبتت نيودلهي أن الهاربين من ميانمار إلى الهند غير مرحّب بهم، فأغلقت حدودها وأصبحت قوة "بنادق آسام" شبه العسكرية التي تحرس الحدود بين الهند وميانمار في حالة تأهب قصوى، كذلك كتبت وزراة الداخلية الهندية رسائل إلى حكومات أربع ولايات في الشمال الشرقي لمطالبتها بالتحقق من موجات التدفق غير الشرعي من ميانمار إلى الهند.كانت الهند قد تخلّت عن سياسة تأييد حركة الديمقراطية علناً لكسب دعم جنرالات ميانمار في عمليات مكافحة التمرد في الشمال الشرقي الغارق في الصراعات، مثلما فعلت سابقاً بين العامين 1988 و1993 لتكثيف تواصلها مع الجنرالات، وكانت الهند تحتاج إلى دعم جيش ميانمار لمحاربة المتمردين المعادين لها والمتمركزين في أدغال ميانمار.
كذلك، لطالما حملت الهند مخاوف معينة من الوجود الصيني الواسع في ميانمار لأنه ينعكس بكل وضوح على أمنها الخاص، وكان ابتعاد الهند عن حكام ميانمار سيُسهّل على الصين توسيع نفوذها، ولهذا السبب، أبدت نيودلهي استعدادها للتواصل مع جميع الأنظمة في ميانمار، سواء كانت ديمقراطية أو عسكرية أو شبه عسكرية، في العقود الأخيرة.يُفترض أن يوضع حذر نيودلهي الراهن في هذا السياق تحديداً، فقد تدعم الهند إرساء الديمقراطية في ميانمار، لكنها حرصت على تجنب إثارة استياء الجنرالات عبر إصدار بيانات لانتقاد تحركاتهم، فالهند لا تريد أن تضعف العلاقة التي بَنَتها بكل حذر مع قوات "تاتمادو" في آخر 25 سنة، لكنها ستجد صعوبة متزايدة في الحفاظ على هذا التوازن الحذر اليوم.لا شك أن قوات "تاتمادو" سترحّب بترحيل رجال الشرطة إلى ميانمار لأن هذه الخطوة ستردع الهاربين الآخرين من حملة القمع العسكرية، لكن هذا التحرك قد يترافق مع كلفة معينة، إذ يسهل في هذه الحالة أن تضعف مزاعم الهند حول اعتبار نفسها دولة ديمقراطية، حتى أن هذا الوضع قد يسيء إلى علاقات الهند مع ميانمار على المستوى الشعبي.تقول شانكاري سوندارارامان، أستاذة في جامعة "جواهر لال نهرو" في نيودلهي: "تحمل ميانمار نظرة إيجابية إلى الهند، لا سيما في الأوساط الشعبية".لكن من المتوقع أن يستاء سكان ميانمار من ترحيل رجال الشرطة أو منع دخول الهاربين من المجلس العسكري، مما يعني أن تخسر الهند الشعبية التي تتمتع بها في ذلك البلد.حتى الآن، كانت استراتيجية الهند تقضي بإقامة توازن معيّن بين الجيش والناشطين الديمقراطيين في ميانمار، لكن البلد يواجه اليوم تحديات وشيكة، فيشهد الشمال الشرقي اضطرابات كبرى بسبب سياسة نيودلهي الصارمة تجاه الهاربين إلى الهند بحثاً عن ملجأ آمن مع أنها تتقاسم معهم الانتماء العرقي نفسه، فثمة أربع ولايات هندية متاخمة لميانمار، وهي "ميزورام" و"مانيبور" و"ناغالاند" و"أروناتشال براديش"، وتخترق الجماعات العرقية الحدود المنفلتة.أدى الانقلاب في ميانمار وحملة القمع التي أطلقها المجلس العسكري إلى نشوء رد عاطفي قوي في ولايات الهند الشمالية الشرقية، وأبدت الجماعات العرقية هناك تعاطفاً كبيراً مع من يشاركونهم الانتماء العرقي نفسه، كذلك، عبّرت منظمات عدة في ولايات "ميزورام" و"مانيبور" و"ناغالاند" عن تضامنها مع المحتجين في ميانمار.تجاوباً مع مشاعر الرأي العام، أصدرت حكومة ولاية "ميزورام" "معايير التشغيل الداخلي" لحث المسؤولين على "تسهيل وصول اللاجئين والمهاجرين من ميانمار نتيجة التطورات السياسية الحاصلة هناك"، لكنها عادت وألغت هذا القرار بعد أسبوع بأمرٍ من الحكومة المركزية.أدت الأوامر التي وجهتها نيودلهي للحكومات في الشمال الشرقي لرصد المهاجرين من ميانمار وترحيلهم إلى اندلاع احتجاجات كبيرة في المنطقة، وكان تصاعد الدعم الشعبي للهاربين من المجلس العسكري في ميانمار كافياً لدفع حكومة ولاية "ميزورام" إلى الاعتراض على أوامر الحكومة المركزية. في 18 مارس، كتب رئيس حكومة "ميزورام"، زورامتانغا، إلى رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي ما يلي: "لا تستطيع ولاية "ميزورام" أن تتجاهل معاناة المواطنين في ميانمار، ولا يمكن أن تغفل الهند عن هذه الأزمة الإنسانية الحاصلة أمام أنظارنا في البلد المجاور لنا".عقد زورامتانغا اجتماعاً افتراضياً أيضاً مع وزيرة خارجية ميانمار المنفية، زين مار أونغ، من حزب "الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية" الذي حقق انتصاراً ساحقاً خلال الانتخابات الوطنية في نوفمبر الماضي، يقال إن قادة مقيمين في الولايات المتحدة، أصلهم من "ميزورام"، شاركوا في هذا الاجتماع.قال أحد المشاركين إن الهند لا تستطيع تجاهل مزاج الرأي العام في الشمال الشرقي وشدد على حجم الاستياء السائد في المنطقة. يزيد احتمال أن تتوسع المشاعر المعادية للهند في الولايات الشمالية الشرقية خلال الأسابيع أو الأشهر المقبلة بحسب رأيه.واجهت الهند منذ استقلالها في عام 1947 عشرات حركات التمرد الانفصالية والداعمة للاستقلال في مقاطعاتها الشمالية الشرقية الوعرة، ولم تنجح الهند في كبح تلك الاضطرابات بدرجة معينة إلا بعد عقود من عمليات مكافحة التمرد الصعبة والمحادثات الشاقة والمبادرات التنموية.تشتق حركات التمرد هذه من اختلاف هويات السكان وشعورهم الطاغي بأن دولة الهند "الأساسية" تُهمّشهم، ويشعر سكان الولايات الشمالية الشرقية بأن المسؤولين في الدولة الهندية، أو حتى معظم الهنود الآخرين، لا يفهمونهم أو لا يتعاطفون مع وضعهم ومعاناتهم.من المتوقع أن تتأجج هذه المشاعر الآن لأن الحكومة الهندية تعطي الأولوية لمخاوفها الاستراتيجية أكثر مما تهتم بمعاناة سكان الشمال الشرقي ومشاعرهم.تزداد اليوم أعداد من يطالبون الهند بتوسيع دعمها للديمقراطية في ميانمار، وتقول سوندارارامان: "يجب أن تعبّر الهند عن موقفها الداعم لإعادة إحياء حكومة "الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية المُنتخَبة بأسلوب أكثر وضوحاً".قد تتركز القرارات المرتبطة بالسياسة الخارجية في نيودلهي، لكن افتتاحية نشرتها صحيفة "إنديان إكسبرس" تذكر أن التطورات الأخيرة تشدد على ضرورة أن تسمع وزارة الخارجية الهندية أصوات سكان الولايات الحدودية.ذكرت تلك الافتتاحية بأسلوب تحذيري: "تكثر المسائل التي أصبحت على المحك في ميانمار بالنسبة إلى الهند، على المستويين الأمني والاستراتيجي، لكن لا يمكن أن تتوقع نيودلهي نجاح سياسة "التوجه شرقاً" في كسب الزخم المطلوب إذا كانت تتردد في مراعاة مشاعر سكان الولايات الشمالية الشرقية. إذا لم يتحسن الوضع في ميانمار، فقد تصل الأحداث التي تشهدها "ميزورام" اليوم إلى "مانيبور" والولايات الأخرى أيضاً".بدأت الهند تتقرب من الجنرالات خلال التسعينيات لضمان التعاون مع جيش ميانمار في معركتها ضد حركات التمرد في الشمال الشرقي، لكنذلك التعاون قد يكلّفها الكثير اليوم، وقد تؤدي محاولات نيودلهي استرضاء قوات "تاتمادو" المسلّحة في الأشهر الأخيرة إلى اندلاع احتجاجات غاضبة أو حتى فتح المجال أمام نشوء حركات تمرد معادية للهند في الشمال الشرقي.