هل بعناهم الوهم؟ *
يحدثونك كثيرا وبعبارات وكلمات مختلفة، وهي في مجملها تشبه تدحرج الأحلام من فوق سفح جبل شاهق، كلها تمر عبر كنا نتمنى أن ندرس في تلك الجامعة وأن نتخصص في هذا المجال أو ذاك، وأن نعمل هنا وهناك بين ضفاف وصحارى بلداننا أو في بقاع الأرض، حيث أنين الإنسان لا يسكته إلا أصوات رجالات تحكم بشعارات رنانة، وكلمات متماشية مع القاموس الحديث للضحك على العقول!!!هم شابات وشباب لا تعرفهم ولكنهم يبحثون عمن يستمع لهم، وهم يتحسسون طريقاً تصوروا أن شهاداتهم وطموحاتهم وشغفهم بالمادة التي تخصصوا فيها ستكون كافية لتفرش تلك بكثير من ورد الربيع «البمبي»... يكثرون من الأسئلة مع بعض الخجل، يخافون أن يطلقوا أحكامهم على اللحظة حتى لا تثبت تلك التهمة عليهم وهي أنهم جيل «مدلل»!! يتساءلون: هل كانت مهنة الطب هكذا والمحاماة وحتى العمل الإنساني والمنظمات الدولية؟ هل كانت هي كذلك عندما درسنا قيمها ومثلها؟، وإذا كانت فما الذي حدث أم أنكم «كذبتم» علينا؟ جيل كثير الأسئلة قالوا ونحن أوطان تكره السؤال، بل ربما تسجن من يكثر من الأسئلة الحرجة ويناطح المقولات المكررة والمنقوشة في الصفحات الأولى من جرائدنا الباهتة. هم مجموعة من الشباب والشابات من أقصى الأرض لأقصاها، أخذوا من العلم ما استطاعوا إليه سبيلا، وتصوروا أنهم جاهزون لدخول حياة قد تحقق بعض طموحاتهم وأحلامهم، هم جيل لا يشبه بعضه بل يتناقض معه.. بعضهم وصل سريعا تحت شعار «تمكين الشباب» ونهاية زمن «المحنطين» في المناصب، وهؤلاء هم وهن من ربما تصوروا أن المنصب يصنع إنساناً ويجعل منه «بني آدم».. هم تعلموا من بعض أولئك المحنطين أن الوصول هو بالتسلق والجري فوق أجساد الآخرين والكذب والنفاق والتملق وكراهية الرأي الآخر، ولم تعلمهم الجامعات الأوروبية والأميركية العريقة فن تقبل الآخر واحترام الآراء والتواضع.
انقسم الشباب على أنفسهم وراح الحالمون هائمين في بقاع الأرض يبحثون عن مساحة تشبههم أو تحقق بعض ما حلموا به، وآخرون تربعوا سريعا على قائمة «تمكين الشباب» الشعار الرنان الذي في كثير منه يشبه ذاك الذي انتشر في مرحلة سابقة عن «تمكين النساء» فطعّمت بعض المناصب العليا بوجوه نسائية «استكمالا» للصورة المنمقة.. والشباب اليوم، أو بعض من وصل منهم، هم أكثر خطورة من تلك الظاهرة التجميلية التي حصلت للنساء العربيات، هم اليوم يتصورون أنهم الأكثر وعيا، فهما، معرفة وأن كل الماضي كان مجرد هباء بتربع كبار السن الذين هم أصحاب الخبرة أيضا ولكن هذه الأخيرة لم تعد مهمة أبدا في زمن شعار «الشباب قادمون فافتحوا الأبواب».أما تلك الحالمة فهي تحفر في الصخر ليلا نهارا، وتنبش الأوراق وتقرأ التاريخ بحذافيره، وتبحث عن الأخطاء لتتفاداها وتبعد عنها في حين تعلم أن من المهم أن تمزج معرفتها وعلمها المتطور بالخبرة التي تراكمت على مر السنين.. هذه قليل ما تجد مساحة لها لأنها أيضا تكثر الأسئلة ولا تعمل حسب شعار «سمعا وطاعة» ولا تؤمن بأن كل ما يلمع ذهبا، فكثير منه ما هو إلا بريق يبهر العين فقط و«يزغللها»!! انقسم جيلهم كما لم ينقسم جيل قبله، وبقي بعضهم مستعدا لتقديم كل شيء حتى راحته الشخصية وسبل سعادته للوصول الى حلمه في مهنة ووظيفة أو عمل يخدم فيه مجتمعه وناسه وبلده.هذه تركت عملها في المحاماة لأنها تصورت عندما درست في تلك الجامعة العريقة والمعروفة بتميزها في مجال الحقوق، حلمت أنها ستعود لتنصر الحق ضد الظلم أو أن تقف مع المظلومين أو... أو، في حين وجدت نفسها تدافع عن الشركات الكبرى ورجال الأعمال عابري الحدود والقارات.. وذاك الذي درس الطب ليشفي المرضى هو الآخر قال إن أبواب المستشفيات أوصدت في أوجه المحتاجين حتى توفي الكثيرون عندها، فلم يعد قادراً على تحمل المشهد، أما من تخصصت في الصحافة لتصاب بحالة من الاكتئاب نتيجة انقراض الصحافة والإعلام في أوطاننا وتحولها إلى واجهات لجهة واحدة لا حرية للرأي ولا للتعبير ولا الرأي والرأي الآخر، ولا صوت الناس الذي تزينت به تلك الجريدة العريقة يوما ما حتى أوصدت أبوابها وانتشر كتابها بحثا عن لقمة العيش ليس إلا. انقسم الشباب اليوم بين هذا وذاك، وفي الحالتين تبدو الخسارة الكبرى هي للجميع وأولها الوطن الذي هو الأكثر احتياجا لتلك المعرفة، وذاك الشغف الذي راح يخبو كضوء الشمعة في آخر ليلة مظلمة.. هي فشل آخر يضاف إلى قائمة ما فشلنا فيه. * ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية