لبنان في «صراع المرافئ» ولواشنطن حصة الأسد
أميركا تترك ميناء بيروت لأوروبا... وعينها على طرابلس
بعد ثمانية أشهر على تفجيره، لا يزال مرفأ بيروت يحتلّ أولوية دولية، سعياً لإعادة إعماره. وقبل أيام، أعلنت شركات ألمانية السعي لوضع خطة استثمارية لإعادة بناء المرفأ وتشغيله، بشرط تشكيل حكومة تنفذ إصلاحات جذرية. هذه الإصلاحات يفترض أن ترتبط بخطة بعيدة المدى، تشكل عنصر الاهتمام الدولي الكبير بلبنان، خصوصاً في ظل ما تعيشه منطقة الشرق الأوسط والعالم، وما يطلق عليه البعض «صراع المعابر والممرات»، سواء كانت مائية أو برية.وإذا كانت الحرب العالمية الأولى أفرزت تحالفات كان لها علاقة بالصراع على منابع النفط، فما يشهده العالم في مئوية تلك الحرب هو صراع أوضح على معابر النفط والغاز، وعلى الممرات والمعابر التجارية العالمية.
لا ضرورة للدخول في السياق الأوسع لمثل هذه المشاريع، التي تقودها دول كبرى، كمبادرة «الحزام والطريق» الصينية، أو المشروع الأميركي المقابل الذي تحدث الرئيس جو بايدن أخيراً عن ضرورة بلورته، والتي تنطوي عليها صراعات متعددة الاتجاهات، بل يكفي النظر إلى دول منطقة الشرق الأوسط، لتكوين صورة عن هذه الصراعات. فبعد حادثة جنوح السفينة في قناة السويس، برزت مشاريع لقنوات مائية متعددة، أبرزها قناة إيلات- عسقلان الإسرائيلية، و»قناة إسطنبول» الممتدة من بحر مرمرة إلى البحر الأسود. كما أن تدمير مرفأ بيروت، صبّ في مصلحة مرفأ حيفا، الذي تم إعداد خطة عشرية لتطويره وتوسيعه. تحت سقف هذا الصراع، لا بد من إلقاء نظرة على الساحل السوري واللبناني؛ روسيا موجودة في اللاذقية وطرطوس. وإيران لديها وجود بقاعدة بحرية في بانياس. أما لبنان فحالياً قد فتح البازار على مرافئه.السفيرة الأميركية في لبنان أجرت أخيراً زيارتين لمرفأ طرابلس، مما يشير إلى مدى الاهتمام الأميركي بهذا المرفأ، كذلك فعلت السفيرة الفرنسية آن غريو. وبحسب ما تكشف المعلومات، فإن الولايات المتحدة تبدي اهتماماً استثنائياً بمرفأ طرابلس، في إطار توسيع حضورها في البحر المتوسط؛ فواشنطن هي التي ترعى مفاوضات ترسيم الحدود البحرية الجنوبية بين لبنان وإسرائيل، وبالتالي سيكون لها حُكماً تأثير ونفوذ في تلك المنطقة مستقبلاً. ورغم أن واشنطن، حتى الآن، لم تقم بأي إشارة تفيد بأن لديها مشروعاً جاهزاً في مرفأ بيروت، فإنها تترك الأمر للأوروبيين، فباريس كانت أول من اقترح مشروعاً لإعادة إعمار المرفأ والاستثمار فيه، بالشراكة مع CMA CGM. والآن هناك المشروع الألماني، الذي سيُعقد مؤتمر حوله اليوم. كما لا يمكن إخفاء أن تركيا كان لديها طموح، وأبدت الاستعداد للمشاركة في إعادة إعمار مرفأ بيروت والاستثمار فيه. وبحسب المعلومات، فإن واشنطن تدعم الدخول الأوروبي بقوة إلى مرفأ بيروت، لتحجيم نفوذ إيران و»حزب الله» فيه، أما اهتمامها الحقيقي فيتركز على مرفأ طرابلس، الذي يحظى أيضاً باهتمام روسي وصيني، بالإضافة إلى الاهتمام التركي. بالتأكيد لن تترك واشنطن مرفأ طرابلس للصين، لاسيما أنه يحتل أهمية استراتيجية بالنسبة إلى موقعه وقربه من سورية، كما أنه بعيد عن نفوذ «حزب الله» وإيران. ومن خلال الاهتمام الأميركي بمرفأ طرابلس، لا بد من استكمال النظر إلى «مناطق النفوذ» على الساحل اللبناني. ففي منطقة عوكر، يتم تشييد أكبر سفارة أميركية بالشرق الأوسط، كلفتها نحو مليار دولار. وفي منطقة عمشيت، وتحديداً القاعدة البحرية، يوجد مستشارون عسكريون أميركيون. وكذلك في قاعدة حامات الجوية، التي يوجد فيها الكثير من الضباط الأميركيين، حتى أن هذه القاعدة تستقبل بين فترة وأخرى طائرات أميركية محملة بالعتاد والذخائر.كل هذا الاستعراض للاهتمام الدولي بلبنان يهدف للإشارة إلى أن المسألة ليست تشكيل حكومة فقط والدخول في إجراء إصلاحات تقنية اقتصادياً ومالياً أو سياسياً، لا بل إنه السياق الأوسع لتغيير جيو- استراتيجي تمرّ به منطقة الشرق الأوسط، ولبنان يتأثر به إلى أقصى الحدود. إنه الصراع على مناطق النفوذ ومعابر الموارد الأساسية، والذي غالباً ما يؤدي إلى تغييرات جذرية في التوجهات السياسية. سيكون هناك مخاض طويل الأمد، تتداخل فيه تناقضات سياسية وإقليمية كثيرة، لا قدرة لحكومةٍ قيدَ التشكل أن تحسم الأمر حيالها.