الإرهاب العالمي وعودة «طالبان»
على بايدن أن يختار بين انسحاب أميركي كامل قد يطلق العنان للفوضى وتقويض الدولة الأفغانية، أو الاحتفاظ بقوة صغيرة مقيمة لتحاشي الحرب الأهلية والحيلولة دون أن تصبح أفغانستان مركزا للإرهاب، وليعلم الجميع أن الخيار الأول، البعيد تماما عن منح أميركا خروجا يحفظ ماء الوجه من حرب دامت عشرين عاما، من شأنه أن يجعلها شريكة لطالبان.
تمثل أفغانستان أحد أهم الاختبارات المبكرة للرئيس الأميركي جو بايدن، فقد رأينا طالبان متجاسرة تُصعّد حملتها من الاغتيالات والهجمات الإرهابية منذ التوصل لاتفاق مع إدارة دونالد ترامب نص على تقاسم السلطة في كابول وانسحاب أميركي كامل بحلول الأول من مايو، ولن يقتصر المسار الذي ستتخذه سياسات بايدن على تقرير مصير أفغانستان فحسب، بل سيؤثر أيضا على أمن الإقليم، والحرب العالمية على الإرهاب، ووضع أميركا الدولي، في وقت أمسى ما أصاب هذا الوضع من تدهور نسبي جليا لا يخفى على أحد.عادت الولايات المتحدة إلى نقطة البداية في فبراير من العام الماضي، عندما وَقَّـع ترامب، الساعي للفرار من الميدان الأفغاني، اتفاقية «سلام» مع الميليشيا الإرهابية ذاتها التي أطاحت بها الولايات المتحدة من السلطة بغزو البلاد في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، وأضفت صفقة ترامب مع الشيطان، التي أُبرمت من وراء ظهر الحكومة الأفغانية المنتخبة، الشرعية على طالبان. ويعكس التصاعد المفاجئ في وتيرة العنف الإرهابي منذ ذلك الحين مدى ضعف مكاسب أفغانستان من الاتفاق الأميركي مع طالبان.من المنطقي بالنسبة إلى أميركا أن تخرج من حرب طويلة غير مجدية تجاوزت تكلفتها 800 مليار دولار وراح ضحيتها 2218 جنديا أميركيا (فعليا انتهى الدور القتالي للولايات المتحدة وحلف الناتو في أفغانستان قبل تولي ترامب منصبه كرئيس، مع اضطلاع القوات الحكومية الأفغانية بالمسؤولية الكاملة عن الأمن في الأول من يناير عام 2015). أما الأمر غير المنطقي فهو ما وصفه مستشار ترامب السابق للأمن القومي، هيربرت ريموند ماكماستر، بأنه «استرضاء من جانب أميركا على طريقة اتفاقية ميونيخ لحفنة من أفظع الأشخاص على ظهر الأرض».
في واقع الأمر، عمد ترامب إلى ترك أفغانستان للإرهابيين ورعاتهم في باكستان، التي أنشأ جيشها القوي حركة طالبان، ولا يزال يؤوي قاداتها، ويوفر لمقاتليها المخابئ والملاذات عبر الحدود، وربما كان جيش باكستان الفائز الحقيقي من اتفاق يهدد بتحويل أفغانستان لجارة ضعيفة منقادة تستطيع باكستان التأثير فيها تبعا لهواها.غير أن بايدن أسرع، بعد تولي منصبه، لتبني اتفاق ترامب، وأبقى على زلماي خليل زاد مبعوثا أميركيا خاصا للمصالحة الأفغانية، ورغم نجاح خليل زاد المولود في أفغانستان في إقامة روابط وثيقة مع طالبان، فقد واجه صعوبات في إيجاد أرضية مشتركة مع الحكومة الأفغانية. ومؤخرا سربت إدارة بايدن مسودة مقترح للسلام أبرزت مساعيها المحمومة لفرض تسوية أفغانية بُغية الالتزام بالموعد النهائي للانسحاب المقرر في الأول من مايو.يسعى المقترح لإبدال الرئيس الأفغاني أشرف غني بحكومة انتقالية جديدة تتولى فيها طالبان نصف جميع المناصب، ففي خطاب موجه إلى الرئيس غني، ضغط وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن على القائد الأفغاني لرسم «خريطة طريق تفضي إلى حكومة جديدة شاملة» ودستور جديد. وأضاف بلينكن أنه طلب من حكومة تركيا ذات التوجه الإسلامي استضافة اجتماع بين الحكومة الأفغانية وممثلي طالبان «لإنجاز اتفاقية سلام». وقد دفعت لهجة الخطاب المتعجرفة نائب الرئيس الأفغاني أمر الله صالح للتصريح بأن أفغانستان «لن تقبل أبدا سلاما دكتاتوريا ومفروضا».تتحتم على إدارة بايدن الإجابة عن سؤال محوري هو: كيف يمكن لجماعة إرهابية أن تكون جزءا من حكومة بينما لا تزال مصرة على تحقيق النصر العسكري وإعادة فرض الحكم الديني الهمجي؟ فجماعة طالبان تريد أن تؤمّن لنفسها السلطة المطلقة على أفغانستان بالانتظار حتى يخرج الأميركيون من البلاد، وهذا يفسر مماطلتهم في محادثات تقاسم السلطة مع الحكومة الأفغانية.ورغم تهديد الاستراتيجية الأميركية بالانسلاخ، نجد بايدن الآن يقول بأنه «سيكون من الصعب الالتزام» بالأول من مايو كموعد نهائي للجلاء، لكنه «لا يستطيع تخيّل» وجود القوات الأميركية في أفغانستان العام القادم، غير أنه إذا أقدم بايدن على سحب جميع القوات الأميركية قبل 2022، فمن المرجح جدا أن يتولى الإرهابيون مقاليد الأمور في أفغانستان خلال ولايته وتحت ناظريه. في الحقيقة ستأخذ طالبان تصريح بايدن على أنه تأكيد على أنهم لا يحتاجون سوى تأجيل الوقت الذي حددوه لإخضاع كابول لحصارهم لبضعة أشهر أخرى. إن الجدال الدائر في الولايات المتحدة بشأن احتمالية أن يعيد تنظيم القاعدة بناء قاعدة له في أفغانستان عقب الجلاء الأميركي، أو احتمالية أن يوسع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وجوده هناك، يتجاهل حقيقة أن مثل هذا النوع من الإرهاب تحكمه حركة أيديولوجية ذاتية التنظيم توحد الجماعات الجهادية على اختلاف مسمياتها دون حاجة لتنسيق التحرك بينها. فقد لا يكون لميليشيا طالبان توجه عالمي، لكنها تمثل حلقة مهمة في حركة جهادية دولية تثير العداوة تجاه المسلمين من غير السُنّة وتحوله إلى غضب عنيف ضد الحداثة والمعاصرة.إن طالبان بإجبارها الأميركيين على المغادرة واستيلائها على كابول قد تشجع الجماعات الجهادية في بقاع أخرى على تصعيد حملاتها الإرهابية، وقد يغذي التصور بأن الجهاديين قد قهروا أعتى جيوش العالم الاعتقادَ بأن قوة أميركا في تدهور لا سبيل إلى علاجه. أقولها ببساطة: إن تَـمَـكُن حركة طالبان من السيطرة على السلطة المطلقة في أفغانستان من شأنه أن يشكل تهديدا جهاديا للعالم الحر يفوق أي تهديد تمثله أي جماعة أخرى، بما في ذلك القاعدة وفلول داعش.ولتفادي هذا المآل، يجب على الولايات المتحدة استبقاء قوة مقيمة في أفغانستان حتى تواصل توفير الطمأنينة والدعم الجوي للقوات الأفغانية، إضافة للمساعدات اللوجستية لحوالي سبعة آلاف فرد من قوات الناتو والقوات المتحالفة. في الحقيقة، لا يتجاوز عدد القوات الأميركية في أفغانستان حاليا 2500 فرد، مقارنة بحوالي 100 ألف خلال ذروة الحرب، وقد انخفضت التكاليف المالية وخسائر أميركا البشرية بشكل كبير منذ انتهاء دورها القتالي، فلم يسقط فرد أميركي واحد هناك خلال الأربعة عشر شهرا الماضية.على بايدن أن يختار بين انسحاب أميركي كامل قد يطلق العنان للفوضى وتقويض الدولة الأفغانية، أو الاحتفاظ بقوة صغيرة مقيمة لتحاشي الحرب الأهلية والحيلولة دون أن تصبح أفغانستان مركزا للإرهاب، وليعلم الجميع أن الخيار الأول، البعيد تماما عن منح أميركا خروجا يحفظ ماء الوجه من حرب دامت عشرين عاما، من شأنه أن يجعلها شريكة لطالبان، التي ستفضي سيطرتها على أفغانستان إلى الإضرار الدائم بمصالح الولايات المتحدة وأصدقائها. * أستاذ الدراسات الاستراتيجية في مركز بحوث السياسات في نيودلهي، وزميل أكاديمية روبرت بوش في برلين، وقد ألّف تسعة كتب منها «الطاغوت الآسيوي» و«المياه: ساحة المعركة الجديدة في آسيا» و«المياه والسلام والحرب: مواجهة أزمة المياه العالمية».